أصيب الشاب هنري موليسون بنوبات متوالية من الصرع. لا ينهض من واحدة إلا وتعقبها التالية. مصيبة داء الصرع أنه محظور عليه الاقتراب من نهر أو نار أو قيادة سيارة، وإلا مات غريقاً أو حريقاً أو مهشماً، فيما لو فاجأته النوبة. ذلك أن النوبة تفقد الوعي، فيسقط المريض أرضاً. تمت دراسة حالة المريض هنري في قسم الأمراض العصبية ليصل التشخيص إلى أن العلة هي في تلافيف الدماغ العميقة. وأمام استفحال الصرع لم يكن أمام الشاب إلا أن يسلم نفسه للجراح ويليام بيشر سكوفيل، ولأن مسوحات الدماغ دلت على وجود الآفة بجنب الحصين قريباً من الفص الدماغي الصدغي فقد كان لزاماً المغامرة واستئصال هذا المكان. كانت العملية في ستينيات القرن الماضي، ولأن العلوم العصبية كانت تخطو خطواتها البدْئية حينها فلم يكن معروفاً الكثير عن جغرافية الدماغ. وقد حاول الدكتور الكندي «بنفيلد»، بدراسة رائدة، مسح الكرة الأرضية التي يحملها كل منا في جمجمته. وقام بدراسته بإدخال إلكترودات نحيفة إلى المخ ورسم خريطة لجغرافية الدماغ على ألف مريض على قيد الحياة ولمدة نصف قرن، ليخرج في النهاية بكتابه المشهور «لغز الدماغ». وهكذا فقشرة المخ حددت فيها بقع معينة فعرفنا أن الفص الصدغي للحس والجداري للحركة والقفوي للبصر. ولكن التلافيف العميقة لم يكن أحد يعلم عن طبيعة وظيفتها. ومن الأمور المتناقضة في عالم الطب أنه قد يستفيد من كوارث المرضى، كما يقول القول السائر مصائب قوم عند قوم فوائد. وهو ما حصل في حادثتين الأولى للمريض «غينياس كيج»، والثانية للمريض هنري الذي نحن بصدد الحديث عنه. أما الأول فدخل سيخ من الحديد في جبهته، فهرع إلى المشفى بعمود الحديد، وهو في رأسه ولم يمت، وصاحبنا هنري أصيب بكارثة بعد العملية صعق لها الفريق الطبي، ولكنها قادت إلى فتح علمي، كعادة الكشوفات العلمية. أما «غينياس» فقد هدى الأطباء إلى أن الناصية ليست من دون وظيفة، بل فيها أشرف وظيفة، وهي الحكمة، فقد قام من العملية بعد رفع سيخ الحديد من جمجمته، وعاد إلى أسرته معافىً، ولكن خللاً فظيعاً حل بالرجل فقد تبخرت منه الحكمة، صحيح أنه يتذكر ويعدّ ويقوم بوظائفه اليومية، ولكنه لا يعرف المهم من الأهم. أو ترتيب الأولويات، أو فرز الخطير من العادي. وبالعودة إلى هنري موليسون فكانت حالته أعجب، فقد ارتعب الجراح «ويليام سكوفيل» حين أدرك أن نقصاً مريعاً حل بالمريض، فقد انحبس في الزمن! عجيب كيف؟ لم يعد يعرف الماضي ولا المستقبل. تأتيه الممرضة بالدواء فيتناوله، فإذا رجعت لم يتذكرها قط. وطبيبه «ويليام» يسلم عليه صباحاً فيرد، فإن جاءه مساء لم يتذكر أنه قد رآه من قبل. وإن خرج من غرفته نسي أين هي فيتوه. ثم ماذا يعني وجوده في المشفى؟ لقد سرقت منه العملية القدرة على التذكر وحبسته في جزيرة الحاضر. وهذه الحالة العجيبة دفعت الدكتورة سوزان كوركين من معهد ماساشوسيت (MIT) لوضعه تحت الدراسة لمدة 36 عاماً، في 55 زيارة ميدانية، وقد دخل 122 باحثاً على الخط، فهي اختصاصية بالأمراض العصبية وما يمت لها بصلة. فتمت دراسته في كل ما يخطر في البال مما يقوم به البشر. ولما مات الرجل في عمر 82 سنة، حضرت عملية استئصال دماغه وقطعها في 2401 شريحة للدراسة ومعرفة أسرار الذاكرة. ويعلق «ميشيو كاكو» صاحب كتاب «مستقبل العقل» بأنه إذا كان الحصين مستودع أسرار الذاكرة، فيمكن الدخول عليه وتركيب حصين جديد، وهو ما فاتت فرصته هنري موليسون لكي يستعيد ذاكرته. وفضلاً عن معالجة مرضى الزهايمر فقد عرف سر فقدان الذاكرة بصمغ يعطل الخلايا العصبية، مما يخلق كارثة اجتماعية لكثرة أعداد المصابين، فعدد المصابين في أميركا 5.3 مليون حالياً، وسيتضاعف هذا الرقم أربعة أضعاف بحلول عام 2050، وبين سن 65 و74 يعاني 5% من السكان من المرض، بل إن كل واحد من اثنين ممن تجاوز سن 85 مصابا به. ولأن توقع الحياة في أميركا زاد من عمر 49 مع عام 1900 إلى أكثر من 80 حالياً فهي كما نرى أزمة وطنية.