يتناثر في فضاء التحليلات السياسية الكثير من الآراء حول قضية «سد النهضة» الإثيوبي، وتأثيره على مصالح مصر والسودان، ولكن أياً منها لم يعالجها بالشمول والدقة حسبما أتى في كتاب الخبير الأمني والاستراتيجي حسين حمودة مصطفى، الذي عنونه بـ«تحولات الاختراق الإسرائيلي في أفريقيا وسد النهضة»، ووضع فيه يده على الداء، ثم راح يصف الدواء ببراعة. وتغلغل إسرائيل في أفريقيا ليس جديداً بالطبع، سواء على مستوى ما جرى في الواقع، أو ما انتبه إليه الدارسون فضلاً عن رجال السياسة والمخابرات، ولكن الكتاب يلفت الانتباه إلى تغير مهم طرأ على توجهات تل أبيب نحو القارة السمراء، يتمثل في التركيز على الدول الأكثر قدرة على حماية المصالح الإسرائيلية، والمزاوجة بين التحركات الرسمية وغير الرسمية على مستوى الشركات والمجتمع المدني والتعاون الأكاديمي، علاوة على الطرق المرتبطة بالتنمية في مجالات الزراعة وإدارة الموارد المائية ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة وتمكين المرأة. ويعزو الكاتب سياسة إسرائيل حيال سد النهضة إلى مخططها القديم المتجدد الذي يرمي إلى الضغط على مصر بما يقودها في النهاية إلى إقرار حصة لإسرائيل في مياه النيل، وهو هدف قاد تل أبيب إلى المشاركة في إقامة سدود ومشروعات للري في بعض دول حوض النيل، مع التركيز على إثيوبيا التي يتدفق من هضابها 85% من مياه النيل القادمة إلى مصر، عبر علاقات سياسية واقتصادية بل عقدية وفكرية بين بعض النخبتين الحاكمتين في البلدين، وهو أمر عكسه سفير إسرائيلي سابق في إثيوبيا حين قال: «هناك روابط طيبة تجمع كلاً من الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية والشعب اليهودي، فالمسيحيون الإثيوبيون يعتبرون إسرائيل الأرض المقدسة ويحملون لليهود نظرة إيجابية»، وقد شابه بين وضع إثيوبيا كدولة مسيحية تحيط بها دول مسلمة ووضع إسرائيل التي تعاني من الإحاطة نفسها! ويوغل الكاتب في تشخيص الداء مستخدماً زوايا متعددة ومتكاملة، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية، لينتهي إلى اقتراحات عدة يضعها أمام القيادة السياسية المصرية بغية معالجة شاملة وناجعة لأزمة «سد النهضة»، أثنى عليها الأستاذ الدكتور أحمد يوسف أحمد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، في تقديمه للطبعة الثانية من الكتاب، أولها ثقافي يتعلق بوضع استراتيجية للحد من المخاطر التي يتعرض لها التراث الثقافي والطبيعي لنهر النيل عبر الاستناد إلى الاتفاقيات الدولية، لحماية التراث العالمي بما يعزز من موقف مصر التفاوضيِّ. والثاني قانوني يتكئ على الخبرة المصرية الناجحة في قضية طابا التي استردتها مصر من إسرائيل بعد مفاوضات شاقة، ما يعني قيام القاهرة بتشكيل لجنة قانونية تتابع المفاوضات مع إثيوبيا. أما الثالث فهو مسار دبلوماسي لا يقتصر على الجانب الرسمي وإنما يردفه بمسار شعبي فاعل. والرابع تنهض به المؤسسات الأكاديمية والمراكز البحثية المصرية، ويرمي إلى تقليل الأضرار التي يمكن أن تنجم عن سد النهضة على حصة مصر من المياه وسياستها الزراعية والخدمية. والخامس فني حيث تشارك مصر والسودان في إعداد بحوث جادة عن طريق مكاتب استشارية عالمية ذات صدقيَّة من أجل مساندة موقف البلدين أمام الجهات والمؤسسات الدولية. ويتبع هذا مسار سادس استخباراتي يعمل على تعويق إقامة سد النهضة وغيره من السدود على النيل، حتى لو اقتضى الأمر استخدام الخيار العسكري، وهي مسألة يختلف معها الدكتور أحمد يوسف الذي يرى أن «الحل العسكري سوف يخلق من المشاكل أكثر مما سيحل المشكلة، لأسباب عدة: أولها قانوني حيث إن أي عمل من هذا القبيل منافٍ تماماً للقانون الدولي، ولن تجد مصر من يساندها فيه. وثانيها أن مثل هذا التصرف سيضرب العلاقات المصرية- الأفريقية في مقتل. بينما تحتاج القاهرة إلى هذه العلاقات في معركتها العادلة من أجل الحفاظ على حقوقها المائية، والأهم من ذلك كله أن إثيوبيا لن تعدم أن تجد بين خصوم مصر ومن لا يتمنون لها الخير من يساعدها في توجيه ضربة مضادة، مصر في غنى عنها! خاصة أن السد العالي قد يكون هدفاً مغرياً لإيذاء مصر». وهناك ثلاثة سيناريوهات محتملة ستمضي فيها هذه المشكلة، حسب الكاتب، أولها استمرار التطورات الراهنة المتمثلة في التغلغل الإسرائيليِّ في القارة السمراء بدعم أميركيٍّ في إطار الشرق الأوسط الكبير. والثاني هو تباطؤ وتيرة العلاقات الأفريقية- الإسرائيلية نتيجة دعم أميركيٍّ أقل واستفادة أفريقية أكبر من تناقض المصالح الدولية. أما الثالث فيتمثل في التفات أفريقيِّ وعربيِّ لمخاطر التغلغل الإسرائيليِّ هذا، بما يدفع إلى تبني استراتيجيات فاعلة، لمواجهة إسرائيل وتنشيط التعاون العربيِّ- الأفريقيِّ وحينئذ تنحسر العلاقات الأفريقية- الإسرائيلية نسبيّاً.