تكمل المساواة، الضلع الثالث في مثلث القيم العظيمة، حيث تشكل مع الحرية والعدالة، المثل العليا التي يصبو البشر إلى تحقيقها منذ أول الخليقة، وهي قيمة مهمة في حياة النظام الديمقراطي، ففي حال انحدار مبدأ المساواة بشكل طبيعي من إيمان بالكرامة الإنسانية، وحين يكون حصيلة للاحترام المطلق للاستحقاق الإنساني، يصبح أمراً كافياً لإيجاد الديمقراطية. وتعني المساواة بمفهومها العام وجود حالة من التماثل بين أفراد المجتمع أمام القانون، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو العقيدة الدينية أو الثروة أو الجنس أو المهنة. وقد بيَّن ابن منظور في معجمه ذائع الصيت «لسان العرب» حين كان بصدد الحديث عن الاشتقاق اللغوي للمساواة أن «التساوي هو التماثل.. والمتساويان هما اللذان لا ينيوا أحدهما عن الآخر.. والسوية هي العدل والنصفة». ولكنّ هناك اختلافاً بين المفكرين حول «المساواة المادية»، فالبعض يرى أن تحقيق المساواة بشكل مطلق، أو طريقة رياضية بحتة، يضر بقيم الحرية والعدالة والإنجاز، ويتعارض مع مبدأ التدرج، الذي يبدو أنه يشكل قانوناً طبيعياً لحياة البشر، إذ ليس من العدل أن يتساوى الناس في العائد أو المكافأة المادية، على رغم تفاوت جهودهم وعطائهم الناجم عن اختلاف قدراتهم واستعداداتهم الطبيعية، كالصحة والذكاء والاتزان العاطفي. وفي المقابل يرى البعض أن عدم تساوي البشر في الخصائص الطبيعية، قد يكون مجرد نتيجة لعدم توافر المساواة الاجتماعية، فالصحة المعتلة مثلاً تنشأ عن سوء التغذية، ويكون الذكاء المتدني مجرد انعكاس لأمية أسرة فقيرة. ولهذا نادت النظرية الماركسية بمبدأ «من كل على قدر طاقته ولكل حسب حاجته»، لكنها فشلت، عملياً، في تطبيق هذا الأمر، مما يفتح الباب مجدداً أمام إعادة النظر في المفهوم العملي لقيمة المساواة. وهنا يمكن التأكيد على أن المساواة تعني التساوي في مختلف الأوضاع بما يمكّن الناس من ممارسة حياتهم على أساس من تكافؤ الفرص، وليس على أساس التساوي الحسابي البحت. ولذا ينبغي أن يكون التساوي في الحقوق والواجبات الإنسانية أمام القانون الذي يضبط حركة المجتمع، ويقوم على التوازن أو التراضي بين كافة أعضاء المجموعة، ويخلص لتحقيق مصلحتهم دون تمييز. أما النواحي المادية فينبغي أن تقوم على مبدأ تكافؤ الفرص، ومنع الاستغلال، ثم يتم ترك الناس ليحصلوا على عائد مادي يتناسب مع حجم إنجازهم، أو مقدار الجهد الذي يبذلونه، وبذلك لا تضار الحرية، ولا العدالة. ولكن هذا قد لا يمنع أيضاً في حال حدوث تفاوت حاد، يتعدى مسألة التدرج الطبيعي، جراء وقوع ظلم اجتماعي أو فساد سياسي واقتصادي، من التدخل لإعادة الأمور إلى نصابها، حيث إن تركز الثروات القومية في أيدي الأقلية يؤدي إلى الانتقاص من حقوق بقية الناس، ونكون في هذه الحالة أمام غياب للعدل الاجتماعي، الأمر الذي يضر، دون شك، بالمصلحة العامة للمجتمع، ولاسيما إن كانت هذه القلة لا تحسن استغلال الثروة، أو تبددها فيما قد لا يفيد مجموع الناس، كما حدث في بعض الدول التي تعرضت للنهب أو بلغ الفساد المالي فيها مبلغاً شديداً. وفي حياة العرب المعاصرين كان هناك دفع جماهيري في اتجاه المساواة القائمة على تكافؤ الفرص، وتبني البعض أيديولوجيات تدعو إلى ذلك، ولكن الحصاد لم يكن على قدر المطالب، والنتائج لا تكافئ المقدمات. وإذا كان هذا هو حال التساوي في جانبه المتعلق بالناحية المادية، فإن التساوي لم يجد تقدماً على مساراته الأخرى، فمثلاً لم تحرز المرأة في أغلب الدول العربية ما تأمله من مكانة اجتماعية أو تحصل على ما تستحقه من تقدير أو تنل نصيباً من العمل العام يتناسب مع دورها الحياتي، أو حتى ترفع جزءاً من القهر الذي يمارس عليها، وبات خطاب الحركة النسائية العربية بشتى أطيافها مثقلاً بعبء الإمساك بمنفذ عريض يخترق طيات «ثقافة ذكورية» تهمش المرأة، أو البحث عن سبيل لتغيير حزمة من القوانين والممارسات التي تهضم جزءاً من حقوق النساء. ولم يسلم العرب جميعاً، حكاماً ومحكومين، مثقفين وعوام، من الشعور بعدم المساواة في تعامل «الآخر الغربي» معهم، ورشح هذا الإحساس على الخطاب السياسي في طرحه لمسألة الشمال والجنوب، وعلى الرؤية الحضارية في الخوف من ضياع الثقافة الوطنية لحساب التغريب، وبرز الحديث عن «المؤامرة» التي يمارسها «الآخر» ضد العرب، أو النظرة الدونية للعربي في عيون الغربي، وخلافه.