إنها أشبه بشبكة عنكبوت غير مرئية تربط بين الناس والأماكن في صمت، أو ربما بشبكة طرق غير مرئية، أو بشبكة كهربائية غير مرئية: نظامٌ يسهِّل العمليات التجارية، ويجعل من الممكن ركوب الطائرة في بلد والوصول إلى بلد آخر، والاتجار في قطع الغيار عبر الحدود، والاستفادة من اتفاقيات التأمين الدولية ومعدلات مقبولة لصرف العملات. والواقع أنه لا يوجد تشبيه أو استعارة تغطِّي بشكل كامل القواعد والقوانين والإجراءات والمعايير المحترمة بشكل متبادل، وغيرها من الاتفاقيات التي تشكِّل نظام التجارة الدولي في القرن الحادي والعشرين. إنه شيء قائم ومستقل بذاته، وقد كان تبادل السلع على مسافات بعيدة في الماضي يحدث عادة داخل الإمبراطوريات – الإمبراطورية الرومانية، الإمبراطورية البريطانية – وإلا فإنه كان يعتمد على التهديد الضمني بالقوة: إذا لم تفِ بالاتفاق، فإننا سنقصف ميناءك أو نضرب مبعوثك. وتلك هي الكيفية التي ما زالت تتم بها الأشياء في الأماكن التي ليس فيها إطار قانوني للتجارة، وكنتُ في التسعينيات قد التقيتُ «رجل أعمال» شاباً في أوكرانيا أخبرني أنه لا يتعامل تجارياً إلا مع أبناء عمومته، فقد كان أفراد عائلته، المنتشرون عبر عدة مدن، يقومون بالتبادل والمقايضة في ما بينهم لأنهم يثقون بعضهم في بعض. لقد كان يشتغل في فضاء لا قوانين فيه – عالم لا يستطيع معظمنا تذكره. والواقع أن الكثيرين منا أصبحوا جد معتادين عكس ذلك، أي على عالم من القوانين الدولية المتفق عليها بشكل متبادل والمطبَّقة بشكل سلمي، لدرجة أننا لم نعد نقدِّرها، إذ أخذ الكثيرون منا يصفون القوانين بـ«البيروقراطية»، والأشخاص الذين يكتبونها بـ«الخبراء الذين لا ضرورة لهم»، والنظام القائم على احترام القانون بالمؤامرة الشريرة. ولكن ماذا لو اختفت كل هذه الأشياء؟ هذا ليس سؤالاً نظرياً، ذلك أن نسخة ما من هذا التحول الكبير قد تحدث في مارس 2019 في بريطانيا، إنْ لم يكن قبله. وهذا الأسبوع، اصطدمت المجموعةُ المعقدة من اتفاقيات الطلاق البريطانية- الأوروبية بعقبة جديدة ضمن سلسلة طويلة من العقبات غير المتوقعة، ذلك أن أقلية في بريطانيا، وهي أقلية صاخبة، باتت تريد وقف المفاوضات بشكل كامل ومفاجئ: تنفيذ «بريكسيت صلبة»، أي انسحاب مفاجئ من أربعة عقود من قانون اتحادي أوروبي بُني بشكل مشترك، ولكن من دون أي اتفاقات انتقالية لملء الهوة. غير أنني أعتذرُ لأصدقائي البريطانيين – ولأطفالهم، الذين ستتأثر حياتهم بشكل كبير جداً – فقد بدأتُ أعتقد أن انسحاباً قوياً حقاً وفجائياً حقاً سيخدم هدفاً مفيداً للجميع، ذلك أنك إذا كنتَ لا تقدِّر العالم المقنَّن بشكل دقيق والمشتغِل بسلاسة والمتفاوض حوله الذي نعيش فيه، فربما يجدر بك أن تجرِّب العيش خارجه. ومن بين الأشياء التي يمكن أن تحدث، إذا لم يتم فعل شيء من أجل الاستعداد أن كل الرحلات الجوية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي يمكن أن تتوقف، لأنه إذا غادرت بريطانيا اتفاقية الأجواء المفتوحة، التي انضمت إليها كعضو في الاتحاد الأوروبي، فإن شركات النقل الجوي لن تكون قادرة على أن تحط هناك، كما أن الشاحنات – التي تنقل قطع الغيار أو المنتجات الطازجة – ستشكل طوابير طويلة في الموانئ، فليست عمليات الجمارك البريطانية ولا الأوروبية مستعدة لتطبيق التعريفات الجمركية الجديدة التي ستظهر بالتوازي مع توقف اتفاقيات التجارة الحرة، وإضافة إلى ذلك فإن وقود المحطات النووية البريطانية الثماني سينفد ببطء شأنه في ذلك شأن قطع غيارها، وذلك نظراً لأن البلد لم يعد جزءاً من الهيئة الأوروبية المنظِّمة للطاقة النووية «يوراتوم» ولا يستطيع اقتناء معدات نووية من خارجها، ثم إن البنوك البريطانية التي تُعد من أكثر المصارف التي لها تعاملات دولية في العالم، ستفقد فجأة الحق في تقديم خدماتها للزبائن الأوروبيين. وهناك تأثيرات جانبية أخرى تشمل نقص المخزون بسبب توقف التجارة، والتضخم، ولا سيما في المواد الغذائية، وذلك بسبب تراجع الواردات، وفقدان التأمين الصحي للأوروبيين الذين يعيشون في بريطانيا وللبريطانيين الذين يعيشون في أوروبا، وستكون ثمة 759 اتفاقية على الأقل سيتعين إعادة التفاوض بشأنها، وفق صحيفة «فاينانشل تايمز»، وتشمل هذه الاتفاقيات العشرات من اتفاقيات التجارة مع بلدان غير أوروبية، من كندا إلى تشيلي، وكذلك اتفاقيات تنظِّم مجالات متنوعة مثل حقوق الصيد وقانون محاربة الاحتكار، وكل واحدة من هذه الاتفاقيات تتطلّب فرقاً من المحامين واجتماعات ووقتاً ومفاوضات. وبغض النظر عما سيحدث، فإن بريطانيا ستحتاج من دون شك لأعداد جديدة من البيروقراطيين، وأشخاص للاشتغال على الاتفاقيات الجديدة وأشخاص للإشراف على تطبيقها، وسيتبين على نحو شبه مؤكد أن بريطانيا كانت توفِّر المال من عضويتها في أوروبا، لأن «اقتصادات الحجم» تجعل عملية التقنين أرخص بكثير. كما سيتضح على نحو شبه مؤكد أن بريطانيا كانت أكثر قوة – وتتمتع بسيادة أكثر – عندما كانت جزءاً من منظمة كبيرة ذات قوة ونفوذ دوليين، ذلك أن العديد من الأطراف الأخرى في تلك الاتفاقيات الـ759 ستسعى إلى استغلال بلد منعزل يفتقر للحلفاء، والمستهلكون والعمال ورواد الأعمال البريطانيون هم الذين سيدفعون الثمن. والحقيقة أن هناك الكثير من الأشخاص الذين لا يصدّقون أو يتوقعون هذا السيناريو. ومن بين هؤلاء جون ريدوود، وهو وزير سابق من حزب «المحافظين»، كان يرسل تغريدات على «تويتر» بكل ثقة حول كيف أنه سيصبح من السهل ممارسة التجارة خارج أوروبا. رأي كرّره آخرون غيره، وقد يكونون على حق، ولكن إذا لم يكونوا كذلك، فإن مشهدَ انزواء بريطانيا الفجائي إلى عالم حيث يكون المرء أفضل حالاً حين يتعامل مع أبناء عمومته فقط سيكون نافعاً ومفيداً للجميع من دون شك. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»