هل يمكن أن تحدث جريمة مروعة نالت جيلًا كاملًا في كندا؟ هذا ما حدث في القرن الماضي، ضمن ما عبرت عنه «مارشيا براون مارتل» وهي زعيمة من السكان الأصليين، بعبارة «سرقة الأطفال»! ولكن ما الذي حدث بالضبط؟ أنا شخصياً فوجئت حين روت لي ابنتي القصة، وهي محامية متخصصة في قضايا حقوق الإنسان. وأيام الصيف في كندا خاطفة قصيرة، ولذا يهرع ساكنة مونتريال إلى التنزه على ضفاف البحيرات المتوزعة على طول خريطة البلاد، فثلث المياه الحلوة على الأرض مكانها كندا. ولولا البرد لكانت كندا جنة الأرض باجتماع الطبيعة والنظافة والمجتمع المنظم العادل. وقد أخذتني ابنتي إلى منطقة غنّاء هي «برومونت» وعندما عبرنا جسر «أونور ميرسي» فوق نهر «سان لوران» جنوباً إلى منطقة «كاناواكي» أشارت بيدها قائلة: هذه هي منطقة الهنود الحمر! إنها تسمية غير دقيقة، أليس كذلك؟ فلا علاقة لهم بالهند، وقد نالوا لعنة اكتشاف أميركا. ولكن كيف يحدث ظلم بحجم الجبال في الأرض الكندية في دولة تعتبر في سقف العالم، ففيها يسبح الناس في بحيرة من الرفاهية، ويتركون بيوتهم مفتوحة للأمن الذي يسود؟ وما حدث كان جريمة قرن لكندا لا تليق بها، ولكن كما يقول الفيلسوف «رينيه ديكارت»: إن أعظم النفوس نبلاً يمكن أن ترتكب أفظع الرذائل! فقد تمت في ستينيات القرن الماضي مصادرة أطفال الهنود الحمر من السكان الأصليين بعشرات الآلاف، واستمرت قبل ذلك فترة طويلة ربما امتدت على مدى 150 عاماً، وربما تم حجز أكثر من 100 ألف طفل من عائلاتهم قسراً، ولكن أشدها وأقساها وأقبحها كان في ستينيات القرن العشرين، واستمرت حتى ثمانينيات القرن العشرين! لماذا؟ قال المشرفون على الجريمة إن هؤلاء همج يجب إدخالهم حظيرة الحضارة! وهكذا تم أخذ الأطفال عنوة من أهاليهم وإدخالهم إلى مدراس خاصة بإشراف الكنيسة، ليفقدوا ثقافتهم ولغتهم وكل ما ينتسب لأمتهم بصلة، حتى إذا رجعوا أصبحوا مثل الغراب الذي أراد تقليد مشية البط، فلا حافظ على مشيته، ولا الجديد اكتسب. هذه القضية أخذت عمقاً في ضمير الكنديين، وانتهت بلجنة الاعتراف والمصالحة، وتعويض المتضررين بمبلغ 800 مليون دولار كندي، على أن تدرس الحالات فيدفع لكل متضرر 25 ألف دولار، فإذا بلغ عدد المتضررين أقل من عشرين ألف حالة، رفع المبلغ للفرد الواحد إلى 50 ألف دولار. وأهمية هذا الاعتراف والتعويض، الرمزية العميقة، ألا يسود ظلم، أو يستمر أي ضيم، بل تتم مراجعة الأخطاء وتصحيحها، ولو كانت من آباء مقدّرين، رسموا الخطوط الأولى لمثل هذه الكوارث بغطاء من إدخال الأطفال الهمج إلى حظيرة الحضارة! وقد أعلنت وزيرة السكان الأصليين «كارولين بنيت» في أوتاوا إغلاق ملف القضية، وإسدال الستار على فصل أسود في تاريخ كندا من خطف الأولاد، وأضافت أن اللغة والثقافة والاعتذار والشفاء هي عناصر أساسية للبدء في تصحيح خطأ ذلك الفصل المظلم والمؤلم. وكعادة الزعيم الكندي جاستن ترودو فقد قدم اعتذار الحكومة الكندية عن جريمة القرن، وجاء الاعتذار مع عيد الشكر الكندي لهذا العام 2017، وتم الإعلان عن المكافأة المالية لأولئك الذين نالهم الحيف والضيم. إن عدد السكان من الهنود الحمر من «الأمم الأولى» و«الإينويت» نحو 1.4 مليون نسمة، ولكنهم مطوقون بظلمات من الجهل والفقر والإدمان ومتوسط عمر أقل، واستفحال الجريمة أكبر في أوساطهم. تحاول كندا إضفاء العدالة على وجهها، فقامت بأمور رمزية ومادية، منها تخليد ذكر السكان الأصليين بصورة على الصفحة الأولى من جواز السفر الكندي، والإعفاء من الضرائب في محمياتهم، وهي هاجس لكل ساكن كندي، ربما فقط الهواء الذي يتنفس ليس فيه ضريبة! ولكن الضرائب لتوفير الخدمات للمواطنين بأجود المعايير والمستويات.