يُخَيّل لكثيرٍ من عناصر النَّخبة في الوطن العربي، ويشاركهم في ذلك بعض السَاسَة، أن التغيير في دولنا يمر عبر إعادة تشكيل وعي الجماهير بما يمكن ضخّه من تصورات جديدة، معاصرة، تتخطى بسرية، وأحياناً تجاهر بذلك، الميراث الديني القائم على فهم واجتهادات لم تعد صالحة لزماننا، بل تؤثر سلباً على حياتنا، أفراداً وشعوباً ودولاً، لكن هذا الطرح رغم جديته وأهميته وحاجتنا الملحة إليه، يصطدم بثلاث عقبات، أولها: التدين الشعبي، من حيث إنه هو الحامي للدولة في زمني الحرب والسلم، وثانيها: الاجتهادات الفتاوي لجهة أنها قد تكون مخالفة ـ في الباطن على الأقل ـ لسياسة الدولة، بل الرحال تشد لأصحابها من معظم القوى الاجتماعية، وثالثها: استحضار الغائب باعتباره حكماً على الشَّاهد، ومُوجِّهاً له، وكل هذا يعني أننا في خصومة، وأحياناً في تصادم يصل إلى درجة الحرب أو الفتنة، فقط عند القول بالتغيير، فما بالك لو بدأناه بشكل مباشر وفاعل وصادق، لكن هل يمكن تخطِّي أو تجاوز تلك العقبات لإحداث تغيير فعلي؟ لا شَّك أنه في مقدورنا ـ نظرياً وعملياً ــ تخطِّي وتجاوز تلك العقبات، وذلك بتحقيق أمور ثلاثة، وهي: التَّخلِّي عن سياسة الهجوم، ونيْل ثقة الجماهير، وابتعاد المؤسسات الرسمية عن طرح بدائل تحمل شكاً أو عدم يقين، ويتبع كل ذلك بإنهاء الوصاية الإيمانية، مع بقاء المسؤولية الدينية، من منطلق تطبيق ما ورد في دساتير معظم الدول العربية، وأقصد هنا قاعدة «الإسلام دين الدولة»، وهذا يعني «مَأْسسة التدين الشعبي» أي يتم التغيير في مجتمعاتنا ضمن الأُطر التي تشرف عليها المؤسسات الدينية الرسمية، ومن هنا علينا البحث بجدّية في مدّ جسور حقيقية تعتمد على الثقة والتوافق بين تلك المؤسسات والجماهير، لأن هذا سيساعد على إبعاد، بل وإنهاء أدوار أولئك الذين لا تحكمهم ضوابط دينية، ولا يتحملون مسؤولية فتاويهم واجتهاداتهم الخاطئة. هنا يطرح السؤال التالي: لماذا يشدُّ كثير من أفراد المجتمع الرِّحَال إلى من هم خارج المؤسسات الرسمية للحصول على فتاوي تخصُّ ـ في الغالب ـ قرارات وقوانين الدولة؟.. الإجابة قد تأتينا من تراكم التَّجربة الدِّينية في مجتمعاتنا عبر قرون لجهة الاحتماء بأئمّة المساجد للحكم على قضايا الحياة الدُّنيا بما يحقّق الأمن في الآخرة، وبالتالي دخول الجنة، ثم أن مجتمعاتنا لم تتعرض بعد لتجربة تَواري البُنى الفوقيَّة للدّين كما ذكر الكاتبان الإيطاليان سابينوأكوافيفاـ وأنزو باتشي في كتابها «علم الاجتماع الديني ـ الإشكالات والسياقات» ترجمة عز الدين عناية، الصادر عن «كلمة»، ولا يمكن أن تتعرض لذلك، لأن التدين عندنا، خاصة في مجاله الشعبي، حالة مستمرة، حتى لو خالفت القواعد الصحيحة للدين. مطالبون اليوم على الصعيد الجماعي ــ الرسمي والنَّخْبَوِي ـ بقراءة التجربة الدينية، التي هي: «نتاج استراتيجيات يستخدمها الفرد لمواجهة حاجات غير مشبعة، وأمام محدودية وجوده الخاص، فإنها من جانب آخر متأثرة بالمؤسسات الدينية، وبالكون القدسي الذي يشكل مرجعية لها» ـ كما ذكر الكاتبان كوافيفا وباتشي، المذكوران أعلاه، وبعد قراءتها علينا تحويلها إلى استراتيجية عامة تقلل نزعة الخوف من الموت، وتحقق رغبة المعرفة، وتضبط الحب، وشهوة الخلود، ولا يمكن تحقيق هذه الاستراتيجية إلا إذا قمنا بمأسسة التَّدين الشعبي، وحاورنا أهله دون استعلاء، وابتعدنا كلياً عن تضييق مساحة حرية المساجد، فهي بيوت الله في الأرض.