كثيرة هي التحديات التي تواجه المصالحة الفلسطينية بعد أن نجحت الجهود المصرية في تهيئة الظروف للتقدم باتجاهها، وتمكنت من تحقيق الخطوة الأولى نحوها، غير أن التحدي الجوهري الذي يواجه مهمة إنجاز المصالحة الكاملة، وتحصينها من أية انتكاسة، هو ضعف الثقة المتبادلة بين الطرفين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية، فقد توسعت المسافات بين حركتي «فتح» و«حماس» على مدى أكثر من عشر سنوات، وهي التي كانت بعيدة قبلها أيضاً. أكثر ما يجمع الحركتين اليوم أنهما مأزومتان تبحثان عن طريق للنجاة. أزمة حركة «حماس» أكبر وأعمق لأسباب أهمها الحصار الذي تسببت مواقفها وخياراتها في فرضه على قطاع غزة، والانسداد الذي وصل إليه مشروع المقاومة المسلحة الذي تبنته، فضلاًٍ عن الهزيمة التي مُني بها مشروع الإسلام السياسي الذي كانت جزءاً منه بعد أن انكشفت جماعة «الإخوان» في مصر، فهربت إلى صدام شامل قوَّض ركائزها وأدى إلى إضعاف التنظيمات التي ارتبطت بها طويلاً، ومن بينها تنظيم «الإخوان» الفلسطيني الذي انبثقت «حماس» منه. ويضاف إلى هذا كله فشل «حماس» في وضع حد لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة. وحركة «فتح» مأزومة بدورها، وإن بدرجة أقل، فقد تمكنت الشيخوخة منها، وتفشت فيها أمراض الإمساك بالسلطة في ظروف غير طبيعية. مشروع حل الدولتين الذي تبنته «فتح» وصل إلى طريق مسدود، وكذلك جهود استئناف مفاوضات السلام. وبات كل ما تحقق منذ التوصل إلى اتفاق أوسلو عام 1993 في مهب الريح، إلى حد التلويح بالتخلي عما كان يعتبر مكسباً وحيداً ترتب عليه، وهو السلطة الوطنية التي أُثير جدل أكثر من مرة حول حلها بقرار فلسطيني بعد أن صارت رهينة لدى إسرائيل، كما أن الحلقة الضيقة المهيمنة على الحركة ترفض تحقيق مصالحة مع التيار الإصلاحي الذي يقوده محمد دحلان، وتضع مصالحها فوق مصلحة «فتح» التي تشتد حاجتها إلى لملمة صفوفها استعداداً لانتخابات يمكن أن تُجرى خلال عام في حال استكمال المصالحة مع «حماس»، ومثلما فشل مشروع «حماس»، الذي يقوم على مقاومة مسلحة لا تتوفر مقوماتها، أخفق مشروع «فتح» الذي يراهن على حل سلمي في غياب شريك إسرائيلي مستعد للتوصل إلى تسوية تاريخية. وإذا كانت أزمات الحركتين تدفعهما إلى قبول الاتجاه إلى المصالحة، فهي تخلق في المقابل صعوبات أمام جهود حل أزمة ضعف الثقة، لأن كلاً منهما يخشى أن يستغل الآخر نقاط الضعف لديه. ومن بين ملفات كثيرة تحتاج ثقة متبادلة لمعالجتها، يبدو الملف الأمني أكثرها صعوبة، فقد أحكمت «حماس» قبضتها الأمنية على القطاع، ووظَّفت الآلاف الذين يدينون بالولاء لها. وليس واضحاً بعد المنهج الذي سيُتبع في معالجة هذا الملف، وهل سيُدمج العاملون في أجهزة غزة الأمنية مع مثيلاتها في الضفة، أم ستُعاد هيكلة هذه وتلك؟ وما القواعد التي ستحكم عملية الدمج أو إعادة الهيكلة؟ وكيف ستتصرف «فتح» إذا طلبت «حماس» أن تشمل إعادة الهيكلة أجهزة الأمن في الضفة أيضاً؟ وثمة مشكلة أكثر صعوبة، وهي وضع «كتائب القسام» التي أصبحت جيشاً كبيراً يتحكم في مواقع حساسة في القطاع، ولديه مخازن أسلحة، وأماكن تدريب، ولا يقل عدده عن عشرة آلاف في أدنى التقديرات. لذلك يُثار السؤال عن العلاقة بين الحكومة الفلسطينية وقوات «حماس» في ضوء سلبيات التجربة اللبنانية، علماً بأن الوضع في الحالة الفلسطينية قد يكون أكثر تعقيداً، فالتعدد والتنوع الواسعان في لبنان يحولان دون حدوث استقطاب ثنائي، بخلاف الحالة الفلسطينية المستقطبة بين «فتح» و«حماس»، لذا ربما يكون صعباً الحديث عن مرحلة جديدة تماماً في الوضع الفلسطيني من دون التوصل إلى قواعد محدَّدة تحكم الوضع الأمني، وتُحدد وضع قوات «حماس» في قطاع غزة وعلاقتها مع الحكومة. وفضلاً عن أن مشكلة الوضع الأمني في القطاع تنطوي على أبعاد سياسية، بل ربما تُعد سياسية في جوهرها، ستواجه المصالحة في وقت لاحق خلافات سياسية مباشرة يُعاد إنتاجها في كل مرة تُبذل فيها جهود جادة لإنهاء الانقسام. ومن أهم هذه الخلافات آليات إدارة الانتخابات التي يُفترض تحديد موعد لها، والمبادئ التي ستحكم التعامل مع إسرائيل، بدءاً من التنسيق الأمني الكامل بين أجهزة السلطة في رام الله وأجهزة الدولة العبرية، ووصولاً إلى الموقف المشترك الذي يفترض أن يتفق عليه الطرفان بشأن أي مفاوضات في حالة استئناف العملية السلمية.