كتاب الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي «لا تستسلم»، ليس مجرد «خلاصة تجاربه»، كما اختصر د. السويدي تجربته، بل الكتاب دعوة مفعمة بالشجاعة الروحية والصمود المشبع بالتفاؤل وأجمل معاني الحياة. الكثيرون ينتقدون، بما في ذلك بريد الولايات المتحدة الأميركية، الخدمات البريدية في الكويت، ولا أقلُّ انتقاداً لبريد بلادي بعد تجارب مؤلمة وضياع طرود، غير أنهم اتصلوا بي قبل أسبوعين قائلين إن طرداً بريدياً ينتظرني! وكم كانت المفاجأة عندما وجدت كتاب «لا تستسلم»! في ذلك الطرد! في هذا السِّفْر المدهش عن حياته وإنجازاته ومحنته مع المرض الخبيث، ووصوله- بعد أن نشر في دمه مخالبه وخلاياه القاتلة- إلى حافة دنياه ودنيانا، يضع د. جمال بين يديك سيرته وتجاربه ولمحات باهرة من صموده الوجودي عبر كتاب من نحو 500 صفحة، وكيف بلغ سفينة النجاة إلى المرفأ عبر تلك العاصفة التي لا ينجو منها بسهولة كل إنسان، بل إن جانب هذا كله، ودون أن يتيح لك فرصة لالتقاط الأنفاس، ودون أن يعظم ذاته أو يختطف أمجاد غيره، ينتقل بك من مرحلة إلى مرحلة في حياته، ومن تحدٍّ جارف جابهه إلى مسؤوليات إدارية وتربوية ثقيلة حطت على منكبيه، وسط حياته كأب وأستاذ جامعي ومؤسس لأحد أكبر وأبرز مراكز البحوث الخليجية والعربية، أعني «مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية» في أبوظبي. يبدأ الكتاب بعرض سنوات الطفولة والنشأة في دولة الإمارات، في زمن عشناه معه، حيث كان نظام التعليم العام في المنطقة الخليجية والعالم العربي بمثابة «ولادة ثانية» للإنسان! وكانت المرحلة الابتدائية والمتوسطة الإعدادية والثانوية تؤثر في شخصية الطالب وتؤهل الكثيرين فكرياً واجتماعياً، وتدفعهم دفعاً نحو حياة قيادية جادة، وحرص على تحقيق الأهداف من كل لون. ومما يقوله في كتابه عن هذه المرحلة، «توليتُ طوال سنوات المرحلة الإعدادية مسؤولية الإذاعة المدرسية، وأعتقد أنني تدربت خلال تلك الفترة على كثير من المهارات التي يمكن أن تكون قد أفادتني فيما بعد، وكان طابور الصباح في ذلك الوقت شديد الانضباط والتنظيم، وكانت المدرسة تضم مكتبة بدأتُ أرتادها لأغراض تتعلق بالدراسة، وقراءة أقسام معينة من كتب تاريخية أو دينية أو كتب للثقافة العامة»، ولم تكن الحياة المدرسية في المرحلة الثانوية خالية من المزالق المتوقعة في حياة ذلك الجيل، وبخاصة عادة التدخين، حيث كان الشاب «جمال» محاصراً بأسرة من المدخنين! يختتم د. جمال مرحلة التعليم العام في الكتاب بصورة فوتوغرافية ملونة متفائلة مفعمة بالحياة، «ص 94»، تمثله مستعداً لمجابهة تحديات الحياة، متسلحاً بالشهادة التي يحملها بكل اعتزاز. خاض د. السويدي معارك عديدة لزرع الجدية والإقبال على المعرفة والابتعاد خاصة عن الغش.. أسوأ رذائل الطالب. «كان تقييمي للإجابات دقيقاً، فمن يستحق النجاح ينجح، ومن لا يستحق لا ينجح. كما كنت صارماً إزاء قضية الغش، ولا أتسامح فيها، وقد أمسكت بطالب متلبساً بالغش في امتحان كنت أشرف عليه، فجذبته من ذراعه، وأخرجته من قاعة الامتحان». «ص 197». معركته الكبرى على الصعيد المعرفي والاجتماعي والسياسي، كانت ضد التزمت والتعصب وجماعات الإسلام السياسي والأحزاب الأصولية. في صراعه الوجودي مع المرض الشرس الذي أمسك بتلابيب حياته وكاد أن يقتله في أوائل سنين عطائه.. لم تلن عزائمه ولم تتغير مواقفه من هذا التيار. ومن أعجب ما في شخصيته من ملامح القوة أنه وقف في وجهه بشجاعة نادرة رغم قوتهم وضعفه، ورغم مرضه ومنصبه ورغم كثرة شباك ومصائد هذا التيار، ورغم قوة جذور التيار، واستغلاله للإرث الديني والتقاليد الراسخة. ولا يزال حتى اليوم، وقد جرى له ما جرى ودارت به الدنيا ما دارت، مصراً على التنويه ببدايات موقفه من التيار وتنديده بخطورته.. فيقول: «بدأت خلال الدراسة الجامعية خوض معركة استمرت حتى الآن، أي أن عمرها يقارب أربعين عاماً، وهي التصدي لأفكار التيارات الدينية السياسية المتطرفة. وربما يعتقد بعض الناس أن كتابي «السراب»، الذي صدر في فبراير 2015، يعود إلى بروز الاهتمام بالجماعات الدينية السياسية في الوقت الحالي، أو قبل ذلك بسنوات، ولكن صراعي معها أقدم من ذلك بكثير، إذ أدركتُ خطرها باكراً.. وقد اكتشفت أن العنف كامن في البنية الفكرية للجماعات الدينية السياسية، وأنها لا تتردد في اللجوء إليه». ولا يرى في قوة الإسلاميين إلا ضعف وتشتت خصومهم، كما أدرك في تجربته في جامعة الكويت عام 1978، ويقول عنها: «لم يكن الأمر يتعلق بقوة الجماعات الدينية السياسية بقدر ما يتعلق بضعف منافسيها، وهو ما يجعلني أقول إن الساحة كانت شبه خالية أمامها، وأعتقد أن هذا الأمر كان يتكرر بحذافيره في باقي الدول العربية». «ص 112- 113». تشكلت ثقافة الكويت السياسية في أغلب الأحيان بعيداً عن تجاربها ومصالحها! وكان للأحداث في الدول المجاورة وحتى البعيدة نسبياً أثر بالغ في تياراتها الرئيسية! وهذا ما عايش د. جمال جوانب منه! فيقول: «كانت الفترة التي التحقت فيها بالجامعة - في الكويت - بين عامي 1977 و1981 زاخرة بالأحداث الكبرى، بدءاً من زيارة الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات للقدس، ومعاهدة كامب ديفيد، مروراً بالثورة الإيرانية، والحرب العراقية - الإيرانية، وحادثة اقتحام جهيمان العتيبي وجماعته المسجد الحرام، ثم اغتيال الرئيس السادات، وقد كانت هذه الأحداث جميعاً تتفاعل مع ما أدرسه في قسم العلوم السياسية، لينضج وعيي شيئاً فشيئاً، ولأرى الأحداث الإقليمية والعالمية بعين جديدة». «ص 115». استوقفني من محتويات الكتاب حرص د. جمال السويدي في بداية انطلاق عمل مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية على «حقوق النشر»، وخوض المركز «معركة نشر عربية» حول كتاب «المتناطحون»، ولعلّ في ما قالته المؤسسة العربية ما يلخص موقفاً كان وربما لا يزال منتشراً في عالم النشر في بلداننا! في الكتاب موقف مستنير ثان ساهم فيه د. جمال السويدي داعماً سياسة إنسانية رائدة لدولة الإمارات، في مجال البعثات الدراسية منذ نحو عشرين سنة، حلت من خلالها مشكلة لا تزال تثقل الوجدان الكويتي! يقول د. جمال عن تجربة دولة الإمارات: «كانت البعثة مقتصرة على مواطني دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي السنتين الأوليين 1999 و2000، جاءنا طلبة لا يحملون الجنسية الإماراتية، وكانوا من المتميزين فعلاً، وبسبب هذا التميز بذلنا جهداً من أجل أن يحصلوا على الجنسية الإماراتية، ويعود الفضل في ذلك إلى سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان.. وقد سافر هؤلاء الطلبة بالفعل، ودرسوا على نفقة الدولة في جامعات كبرى، وكانوا على قدر ما ظننا بهم، فأنهوا دراستهم بتفوق، وعادوا لينضموا إلى مؤسسات الدولة، ويشاركوا في تجربة التنمية». «ص 290». استوحى د. جمال السند عنوان الكتاب من تجربته القاسية مع المرض واللحظات الرهيبة التي يعيشها القارئ مع الكتاب وعاشها جمال، مع التشخيص الخاطئ ومع غربته ومخاوفه، لا على نفسه فحسب، بل وكذلك وقع المأساة على عائلته وأهله ومع وصفه التفصيلي لخطوات العلاج والأدوية التي لا يزال القارئ في رهبة من متابعتها! ولا شك أن عنوان الكتاب في محله، لا تيأس.. «لا تستسلم»! إذ لم يصمد د. جمال في وجه المرض فحسب، بل عاد يواصل عطاءه بروحه الشجاعة المبدعة- والتي لم تخضع حتى تحت تأثير مرض كاسر كالذي أصابه- لجماعات التيار الديني مثلاً، أو أن يساوم على فكره وتوجهه! الكتاب إضافة حقيقية للمكتبة العربية.. في مجال تقل فيه مثل هذه الإبداعات والترجمات الذاتية. خليل علي حيدر* *كاتب ومفكر- الكويت