يا لَجمال أسراب طالبات «جامعة الموصل» ممشوقات القوام، بعضهن بسراويل «جينز» وأغطية رأس ملونة كربيع مدينة «الموصل» التي تُسمى «أم الربيعين». و«جامعة الموصل»، أم الجامعات العراقية، ولدت ورَعَتْ خلال نصف قرن من عمرها جامعات «نينوى» و«الحمدانية» و«تلعفر». «وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا»، العبارة القرآنية في مدخل الجامعة عنوان ملحمة عودة ثلاثين ألف طالب مع أساتذتهم. وفي موقع الجامعة على «الإنترنت» صور لافتات تحمل عناوين «جامعة الموصل تشرق شمسها من جديد»، و«يوم عرس جامعي»، و«رئيس الجامعة تَفَقد الأبواب الرئيسية لدخول العجلات والمنتسبين، حيث أوعز بفتح أبواب أخرى لتسهيل انسيابية الدخول ومعالجة حالات الاختناق عند مداخل البوابات». والأكاديميون الموصليون كالألمان، الذين يعتبرون المصائب فرصاً، استثمروا مصيبة «داعش» الذي شَرَدّهم، لتحقيق معجزة توحيد العراق في الوضع الجيوسياسي المعقد لمحافظة «نينوى»، المهددة بـ«المناطق المتنازع عليها»، فكليات جامعات الموصل توزّعَت بين مدن «دهوك» و«كركوك» و«زاخو». وغريزة الموصليين التنظيمية أنشأت خارج محافظتهم أقساماً داخلية للطلاب، ومُجَمَّعات سكنية للتدريسيين، ومختبرات طبية وإلكترونية. ولا يدّعي الذين غادروا الموصل بأنهم أفضل ممّن ظلوا داخلها، وهذا أثمن دروس البقاء التي تبلورت في جحيم سياسي وروحي واقتصادي زعزع العراق والمنطقة والعالم. ونحن نجهل تفاصيل حياة وعمل التدريسيين الباقين في الموصل، الذين هدّدهم «داعش» بالقتل، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والمغادرة بالنسبة لبعضهم تعني حكم الموت على ذويهم المُسّنين، الذين لا يمكن نقلهم. والآن يدعو الأكاديميون العائدون إلى «إشراك الباقين، الذين برهنوا على مرونة يحتاجها العراق. فهم وحدهم يعرفون أفضل السبل لمواجهة تحديات، تمتد من الأضرار المرئية، في البنى التحتية للمدينة، وحتى الأضرار غير المرئية، كآثارها على أطفال وقعت فترة دراستهم في ظل «داعش». تفاصيل مجهولة عرفتُها في مكالمة هاتفية مع «أُبَيْ الديوه جي» رئيس جامعة الموصل، الذي استهدفته مافيا الفساد المتعمّمة بالدين، لأنه رفض تقديم أتاوات من موازنة مشاريع الجامعة، فاخترقت إطلاقة بندقية خده، ونفذت من رقبته، وقطعت حبال حنجرته الصوتية، واستقرّت أربع رصاصات في ظهره. و«الديوه جي» أكاديمي نادر المثال، دَرَسَ ماجستير الإدارة والاقتصاد في جامعة «نيوكاسيل» البريطانية، ودكتوراه العلاقات الاقتصادية الدولية في «كليرمونت» الفرنسية. وهو سليل عائلة فقهاء ومؤرخين، تَولّى بعضهم قضاء بغداد، ووالده المؤرخ «سعيد الديوه جي» مؤسس ومدير متحف الموصل. وكلام «الديوه جي» يساعد في التغلب على الأفكار المسبقة، وفيما يلي بعضه: "داعش" حرق المكتبة والاقسام العلمية وعلى نحو بشع لم يسبق له مثيل في العالم المتحضر. القصف الجوي هو المسؤول عن تدمير مركز الجامعة، وعن مقتل كل من رئيس قسم الجيولوجيا وعميد كلية الحاسوب وأخصائي الجملة العصبية الدكتور محمد محمود الشيخ عيسى، وأخصائي الباطنية الدكتور علي صلاح فضيل. والقصف الجوي دّمّرَ المُجمّع الطبي الذي استثمر العراق في إنشائه 183 مليار دينار، بحساب ثمانينيات القرن الماضي، ودَمّرَ مطبعة «مونوتايب» التي كانت تجهز الجامعة، ومؤسسات عدة داخل وخارج المحافظة، ودَمّرَ متحف التاريخ الطبيعي الذي يضم مقتنيات نفيسة لا تُعوّض. ويؤكد «الديوه جي» أن كردستان «قدّمت لنا جميع أشكال العون والمساعدة بشكل لم نكن نتوقعه. وعلي الأديب، وزير التعليم العالي والبحث العلمي السابق، لم يردّ طلباً للجامعة»، كما «أصرَّ الوزير الحالي عبد الرزاق العيسى، على المجيء إلى الموصل في هذا الظرف القلق، وقضى معنا يوماً كاملاً، وحضر مناقشة رسالة دكتوراه». وفي الحديث مع «الديوه جي» نتعرف على روحية الموصليين الذين دفعوا ثمناً باهظاً، ودُمّرت منازلهم، وكل ما فيها، بضمنها ذكرياتهم. «لكن، لا ينبغي التفكير بالانتقام، بل في العيش بطريقة صحيحة، وهذا يعني ضرورة التوقف عن التفكير في الهوية القومية، أو الدينية، أو القبلية. فهذه تسمح في كثير من الأحيان بالإفلات من مسؤولية ارتكاب أخطاء واضحة».