طرح مجموعة من الأعضاء في حزب الليكود الإسرائيلي، الأسبوع الماضي، على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خطة لفصل الأحياء التي يقطنها فلسطينيون في القدس، بطريقة مماثلة لما حدث في مدينة الخليل. ويرى البعض في هذه المحاولة علامة إيجابية على أن حكومة نتنياهو ربما تدرس أفكاراً لإنهاء حكمها المباشر لزهاء 300 ألف فلسطيني. ولكن في الحقيقة، تبدو النية مختلفة تماماً. والقصد من وراء الخطة مالي وعنصري في آن واحد، ذلك أنه بتخلي إسرائيل عن المسؤولية عن تقديم المساندة المالية لأولئك الفلسطينيين، فستوفر المليارات من الدولارات. وفي الوقت ذاته، عندما تخلِّص نفسها من مسؤولية 300 ألف فلسطيني، فستضمن بذلك الهيمنة الديموغرافية اليهودية في الجزء المتبقي من القدس المقسمة. وبالطبع، لا تأخذ الخطة في الحسبان مصير الفلسطينيين الذين ستتركهم إسرائيل، وبعيداً كل البعد عن أن ينالوا حريتهم، سيظل أولئك المواطنون الفلسطينيون أسرى محاصرين بين جدار الفصل العنصري ومتاهة المستوطنات. وسيبقون منعزلين فقراء مفصولين عن بقية الضفة الغربية، وسيُمنعون من القيام بأعمال تجارية مع بقية العالم خارج الجدار. وبغض النظر عما إذا كانت تلك الخطة المقترحة ستوضع موضع التنفيذ يوماً ما، فمن الواضح أن سياسة إسرائيل بشأن القدس، منذ احتلالها الجزء الشرقي من المدينة، تمضي في الاتجاه ذاته. فقد سعت إلى التوفيق بين أمرين هما: السيطرة على المدينة، و«تهويد طبيعتها». وكان لذلك أثر مروّع على حياة الفلسطينيين في المدينة وأحيائها. وحتى بداية تسعينيات القرن الماضي، كانت القدس محوراً للنشاط الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي الفلسطيني. ولم تكن المدينة فقط مقراً للمواقع والمؤسسات الدينية في فلسطين، وإنما كانت أيضاً وجهة لمئات الآلاف من الفلسطينيين في أرجاء الأراضي المحتلة الذين يأتون للعمل أو التسوق أو الالتحاق بالمدارس أو تلقي العلاج الطبي أو الحصول على الخدمات الاجتماعية، أو حضور الفاعليات الثقافية، أو الحصول على مشورة المتخصصين في المجالات كافة. وبعد أن احتل الإسرائيليون الأراضي الفلسطينية كافة في عام 1967، لم يعد من السهل دائماً بالنسبة للفلسطينيين الوصول إلى المدينة، وإنما كان هناك إغلاق للمداخل من حين إلى آخر ونقاط تفتيش لطالما قاومها الفلسطينيون. ولكن على رغم العقبات التي وضعتها سلطات الاحتلال، ظلت القدس محوراً جاذباً. والطريقة التي تسيطر بها سلطات الاحتلال على المفاهيم هي بتسمية ما صنعته أيديها. فقد أطلقت على سبيل المثال اسم «القدس الكبرى» على تقسيماتها. وعندما أعلن الإسرائيليون عن ذلك الوهم بعد سنوات من حرب عام 1967، لم تشمل الجزء الشرقي من المدينة فحسب، ولكن جزءاً كبيراً من أراضي الضفة الغربية، تضمن 28 قرية فلسطينية أخرى، ولتغطية جريمة الضم غير القانونية، بدأت إسرائيل بتسمية تلك القرى بـ«الأحياء العربية»، بينما تشير إلى مستوطناتها بـ«الأحياء اليهودية» في القدس. وتغيرت حياة الفلسطينيين بصورة جذرية في عام 1994، بعد قيام إرهابي يهودي بمذبحة لـ29 مصلياً مسلماً في مسجد الخليل. وحينئذ فرض رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين «إغلاقاً» لم يتم رفعه أبداً. وخلال السنوات اللاحقة، أصبح الإغلاق أشد إحكاماً. وأضحى من الصعب الحصول على تصاريح دخول إلى المدينة. وتم إغلاق المؤسسات الفلسطينية فيها، وتم إخطار المنظمات الأجنبية بأنها ممنوعة من عقد اجتماعاتها ذات الطبيعة السياسية مع الفلسطينيين في المدينة. وأثناء ذلك كله، كانت المستوطنات تُبنى وتتسع رقعتها. وحتى قبل شروع إسرائيل في بناء جدارها العنصري، باتت القدس محوطة بحاجز خرساني من المستوطنات الإسرائيلية المتسعة التي تتعرج صعوداً وهبوطاً لتحيط بالمدينة مثل سور حول مساكن اليهود! وظلت قرى فلسطينية صغيرة محصورة بداخلها، وتمت مصادرة أراضيها من أجل بناء المستوطنات، وتضاءلت الآن تلك المجتمعات القديمة أمام المجمعات السكنية الإسرائيلية الجديدة، التي تخنقها حرفياً. وما يزيد الأمر صعوبة، أن هناك طرقاً سرية التفافية تشق تلك المجتمعات وتعزل الفلسطينيين أكثر عن بعضهم، وتستحوذ على أراضيهم، وتمنعهم من الوصول إلى قلب «القدس العربية». وكان تأثير تلك السياسات مباشراً، وقد أحسّ بوطأتها الفلسطينيون في جوانب الحياة كافة. وبعد أعوام قليلة من فرض الإغلاق الدائم على القدس، ارتفعت معدلات البطالة هنا وفي المناطق المحيطة بها، إلى مستويات صادمة. ولأن الفلسطينيين في الضفة الغربية لم يعد بوسعهم دخول المدينة بسهولة، تعين على الشركات والمرافق الاجتماعية والطبية ومرافق الخدمات المهنية إغلاق مقارها. وبالطريقة ذاتها، تم تمهيد الساحة لهذه الخطة التي تم تقديمها إلى نتنياهو. وتلك الخطة تهدف ببساطة إلى حل «مشكلة ديموغرافية» عن طريق عزل 300 ألف فلسطيني عن القدس، وتوفير مبالغ طائلة. وفي الوقت ذاته، تزيد الفلسطينيين فقراً إلى فقرهم، وتحكم السيطرة عليهم، وتصبح القدس مثل الخليل، وفي محاولة لتغيير المفاهيم، ستقول إسرائيل: «إنها حررت الفلسطينيين»، ولكنهم في الحقيقة سيبقون أسرى للاحتلال!