لا شك أن رغبة أكراد العراق في الانفصال وتكوين دولة مُحملة بالتباسات عديدة، صحيح أنهم أمة من حق أبنائها أن يحلموا بدولة قومية، وصحيح أيضاً أنهم هُمشوا طويلاً في الدول التي خضعوا لحكمها، ولكن حق تقرير المصير لا ينطبق عليهم، كونه مخصصاً للشعوب التي خضعت للاستعمار، ومن الصعب تكييف علاقتهم بالدول التي يعيشون في كنفها باعتبارها علاقة استعمارية. بل إن أكراد العراق يتمتعون بوضع بالغ التميز عن غيرهم من مكونات الشعب العراقي الأخرى، كونهم قد عاشوا بمنأى عن السلطة المركزية منذ الغزو العراقي للكويت 1990 الذي فُرض بعده حظر للطيران في سمائهم، حماية لهم من أي أعمال انتقامية من صدام حسين في أعقاب تمردهم عليه استغلالاً لهزيمته آنذاك. وعقب الغزو الأميركي للعراق في 2003 أصبح للأكراد بالذات وضع اتحادي (فيدرالي) تمتعوا بموجبه بما هو أكثر بكثير من حقوق الولايات في الدول الاتحادية. وهم يقولون تبريراً لرغبتهم في الانفصال إن الحكومة المركزية لا تفي بحقوقهم بموجب الدستور، وإنهم لم يعودوا مستعدين للعمل كخدم لدى عرب العراق. والواقع أن تنكر الحكومة المركزية لحقوق الأكراد بموجب الدستور يُرد عليه بالنضال السياسي من أجل تفعيل الدستور وليس بالانفصال، كما أنها المرة الأولى التي نسمع فيها عن «خدم» برتبة رئيس جمهورية ووزير خارجية، وعن «خدم» يملكون جيشاً خاصاً بهم ولا يستطيع «أسيادهم» العرب الدخول إلى إقليمهم دون إذن منهم، ويتمتعون بتمثيل في البعثات العراقية الدبلوماسية في الخارج، ولهم حق إنتاج النفط وتصديره من الحقول الواقعة في إقليمهم! غير أن أبعاد المعضلة الكردية باتت تتجاوز ذلك بكثير، فهناك أولاً أنه بفرض أن للأكراد حقاً في تقرير المصير فإن المسألة باتت ملتبسة بنزعة توسعية، ذلك أن الاستفتاء قد أُجرى في مناطق متنازع عليها وهذه مخالفة دستورية، وبالتالي يتحول الأمر من التخلص من تبعية يدعي أكراد العراق أنهم يخضعون لها إلى محاولة لفرض تبعية لهم على غير الأكراد! وهناك ثانياً المسألة المتعلقة برشد الحسابات السياسية، فليس الحلم الكردي بالانفصال عن الدول التي يعيشون في ظلها بالجديد، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت جمهورية «مهاباد» في إيران، وتمرد أكراد العراق على سلطتهم المركزية منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي بدعم خارجي بلغ ذروته بدعم شاه إيران لهم في سبعينيات القرن، وفي الحالتين وغيرهما لم يحقق الأكراد شيئاً بسبب الظروف الدولية. فبمجرد تغير هذه الظروف انهارت «مهاباد»، وبمجرد اتفاق صدام حسين مع شاه إيران في 1975 على حل مشكلة «شط العرب» تخلى الشاه تماماً عنهم وانهار تمردهم. وهم يتحالفون الآن مع الولايات المتحدة في الحرب على «داعش» ولكنها لا تؤيدهم حتى الآن في مسعى الانفصال، وليس من السهل أن تفعل ذلك وتخسر قوى إقليمية كتركيا والعراق. والغريب أن تغيب الحسابات السياسية الرشيدة عن القيادة الكردية إلى هذا الحد ولديها كل هذه الخبرة التاريخية عن دور العوامل الخارجية في إحباط حلم الدولة! وها نحن نرى التهديد بخنق الإقليم الكردي من قِبَل الدول المحيطة به وهو تهديد جاد وتداعياته خطيرة، فمن سيدفع ثمن إحباط الجماهير الكردية المتحرقة لدولتها والتي صورت لها قيادتها أن الأمر لا يعدو كونه استفتاءً وكفى؟ أما ثالثة الأثافي فهي الموقف الإسرائيلي من انفصال كردستان، وهو موقف متوقع، فإسرائيل تتمنى أن تغمض عينيها وتفتحهما لتجد الوطن العربي وقد تحول كله إلى أشلاء دول حتى تعزز مكانها في قلبه، ولكن ما يؤرقني هو الموقف الكردي فهو مبني على أساس أنه تحرُّر من ربقة الظلم العربي للأكراد واستتباعهم، فكيف يكون نصيرهم الأوحد هو الدولة التي عصفت بشعب بأكمله واحتلت أرضه وشردته من دياره؟ لقد تحررت القدس يوماً على يد قائد كردي فهل يكون الكرد اليوم عاملاً في تكريس ضياعها؟ وقد شاهدت وسمعت شريطاً مصوراً عن حفل غنائي أقامته مغنية إسرائيلية في كردستان العراق، ورأيت غابة الأعلام الإسرائيلية المرفوعة، وسمعت تأوهات الإعجاب بالغناء، ولكن الأبشع بلا جدال كان ذلك الرجل الذي يسجد على العلم الإسرائيلي ويكرر السجود بحركات هستيرية، فيا إخوتنا في كردستان العراق أما آن أوان الرشادة في إدارة هذه الأزمة بما يحفظ حقوقكم وأمن وطنكم وجيرانكم؟