هل يتوجب على الألمان خاصة والأوروبيين عامة الحذر بعد الانتخابات الأخيرة التي جرت في ألمانيا الأيام القليلة الماضية؟ المتابع للأحداث هناك يدرك أن المستشارة الألمانية تشعر بحالة انكسار رغم الفوز، وكأنه فوز منقوص ولهذا كانت تصرح بأنه «لا ينبغي أن نتحدث كثيراً عن هذا الانتصار».. لماذا؟ لأن نسبة الـ33% التي أدركتها ورغم أنها ضمنت لها الفوز إلا أنها أضعف نسبة منذ توليها منصب المستشارية، وثاني أضعف نسبة في تاريخ الحزب والتحالف الذي تنتمي إليه «لاتحاد المسيحي الديمقراطي» و«الاتحاد المسيحي الاجتماعي». من أفسد فوز ميركل؟ الجواب بالتأكيد أن تيار اليمين الأصولي الصاعد في ألمانيا كجزء واضح من موجة عامة تشمل أوروبا وأميركا معاً، فقد حقق حزب «البديل من أجل ألمانيا» نصراً وتقدماً كبيرين بحيازته نحو 13% من أصوات الناخبين ليدخل البرلمان لأول مرة بصفته الشعبوية العنصرية وبرنامجه الذي يركز على رفض الهجرة، وبخاصة من قبل المسلمين، ويمكن القطع بأن ميركل دفعت جزءاً من شعبيتها نظير مواقفها من اللاجئين لا سيما من المسلمين. أظهر استطلاع للرأي أُجري على الناخبين بعد خروجهم من المقار الانتخابية يوم الأحد 24 سبتمبر الجاري أن نحو نصف الناخبين الألمان يخشون تزايد تأثير الإسلام في المجتمع الألماني، وكشف الاستطلاع الذي أجراه معهد «إنفراتست ديماب» للأبحاث أن 46% من الناخبين الألمان «قلقون للغاية من التأثير المتزايد للإسلام» في البلاد. على خلاف المستشارة الألمانية ورئيس ألمانيا، كان رئيس حزب «البديل من أجل ألمانيا»، اليميني الشعبوي «ألكسندر جاولاند»، يحاجج بأن الإسلام لا يعتبر جزءاً من ألمانيا، وبهذا كان يعزف على وتر «الإسلاموفوبيا» سيما بعد العمليات الإرهابية التي قام بها تنظيم «داعش» هناك خلال العامين الماضيين. في هذا السياق كان «جاولاند» ينشر أفكاره التي لقيت ومن أسف تجاوباً ما بين الناخبين في شرق البلاد، حيث يقل الأجانب وولاية سكسونيا تحديداً، ومنها «أن انتشار الإسلام يمثل تحدياً مباشراً للسلام الداخلي لبلادنا»، وأن هناك تغيرات مقلقة تحدث في ألمانيا حالياً. لا ينتظر المراقب للمشهد الداخلي في ألمانيا سلاماً اجتماعياً هناك في قادم الأيام، وبخاصة بعد أن توعد «البديل لألمانيا» بـ«تغيير هذا البلد»، إذ يطلق «جاولاند» صرخة صريحة غير مريحة: «سنغير هذا البلد سنطارد السيدة ميركل سنستعيد بلادنا». ما الذي يجري في ألمانيا؟ وهل القضية أبعد في خطورتها من مجرد العملية الانتخابية التي جرت بها المقادير الأسبوع الماضي؟ يبدو أن واقع الحال هناك ينذر بهبوب رياح راديكالية يمينية سياسية تصاحبها بالضرورة نعرات دينية وطائفية، تعود بنا إلى أزمة «ملاك الحقيقة المطلقة»، وأحادية الذهن والتوجه، ناهيك عن الرأي الأصولي الواحد. لم يتردد وزير الخارجية الألماني «سيجمارجابريال» في القول حتى قبل موعد الانتخابات أن دخول حزب «البديل لألمانيا» إلى البوندستاج، سيسجل عودة النازيين إلى ألمانيا للمرة الأولى منذ أكثر من سبعين عاماً، في إشارة لا تخطئها العين لما جرى قبل الحرب العالمية الثانية حينما باتت مقدرات العملية السياسية بين أيدي المؤمنين بحكم «الرايخ الثالث» بزعامة الفوهرر لمدة ألف عام. ماذا عن المخاوف التي تلف الألمان اليوم؟ الشاهد أن أحداً لا يمكنه الجزم بأن الألمان عن بكرة أبيهم سعداء بالنتيجة، إذ خرجت تظاهرات في الشوارع تندد بهذا الفوز، لكنها ديمقراطية الصناديق التي جاءت بهم، وهي أيضاً التي يمكنها مستقبلاً أن تعيدهم إلى غياهب التاريخ، لكن في الأثناء تبقى هناك قلاقل حقيقية، تنتظر ألمانيا، فداخلياً يشعر المهاجرون واللاجئون بخوف بالغ من المطاردات ومن تغير الأجواء الإنسانية إلى مناخات طاردة، فعوضاً عن السعي إلى الاندماج سيضحي هؤلاء البائسون وفي أفضل حال مواطنين من الدرجة الثانية، فضلاً عن اعتبارهم الحلقة الأضعف في تصارع الأطراف المتنازعة. أما على الصعيد الخارجي فسوف تتزايد المواجهة حتماً بين ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، ذلك أنه مهما يكن من أمر ميركل وعلاقتها باللاجئين المسلمين أو غيرهم، إلا أنه ما من شخص يمكنه إنكار الطفرات الاقتصادية التي حققتها للاقتصاد الألماني الذي يتقدم بهدوء ولكن بثبات، فخلال ثلاث فترات سابقة لها في مقعد المستشارية، استطاعت تحويل الاقتصاد الألماني إلى قاطرة نمو في أوروبا، ما أزعج الأميركيين والرئيس الحالي دونالد ترامب سيما بعد أن باتت ألمانيا تحقق وفرة في موازناتها في مقابل عجز واضح للموازنات الأميركية. في هذه الأجواء حتما سوف تشتد المواجهات من قبل ترامب الذي يبدو وكأنه والمؤسسة الحاكمة من ورائه تخشى صحوة الألمان من جديد، وبعد أن بات الاقتصاد الألماني الأول أوروبياً، ورابع اقتصاد على مستوى العالم بعد اليابان والصين وأميركا بناتج محلى إجمالي بلغ 3.423 تريليون دولار. تطورات المشهد الألماني قادمة دون أدنى شك، غير أن جل ما يخشاه الجميع أن يكون التطرف والغلو هما ملامح ومعالم الفترة القادمة في ألمانيا، وهذا اختبار صعب لدولة كبرى عانت من مرارة الاستعلاء على الآخرين وعزلهم وإقصائهم. هل آفة حارتنا بالفعل هي «النسيان»، كما قال أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ؟ إميل أمين* *كاتب مصري