تعد مراكز البحوث أجهزة مؤسسية هدفها تقديم الرأي والاستشارة كخدمة عمومية، لذا تعمل الحكومات الحديثة على توظيف المتخصصين من ذوي الخبرة لتقويم الخيارات ورسم السياسات. ويشتمل الكتاب الذي نعرضه هنا على وقائع مؤتمر «المراكز البحثية ودورها في دعم السياسة العامة» الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في ديسمبر 2014، تزامناً مع مرور الذكرى العشرين لانطلاق المركز. ويشتمل الكتاب على ثلاثة فصول يستشرف أولها آفاق ومستقبل مؤسسات الفكر في الخليج العربي خلال السنوات العشرين القادمة، ويرى كاتبه أنتوني كوردسمان أنه وإن كان هناك الكثير مما يمكن الاحتفاء به في تطور مؤسسات الفكر بمنطقة الخليج العربي، فثمة الكثير مما يتعين القيام به، وعلى الخصوص فيما يتعلق بوضع تقويم إقليمي موضوعي خالص للقدرات النسبية العسكرية الإيرانية والخليجية، وقدرات القوى الخارجية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. كما يرى ضرورة تحديد الأولويات على أساس تقديرات واقعية للتهديد الشامل، والقدرات الحالية، وأولويات المهمات. وكما يؤكد كوردسمان فإنه يمكن لمؤسسات الفكر والأبحاث الخليجية، مثل مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أن تعلب دوراً حاسماً في تزويد متخذي القرار بتقويمات مستقلة للأولويات المشتركة، وحقائق أساسية تشكل التوازن العسكري، وأفضل طريقة لتجنب النزاع من خلال الدفاع والردع الفاعلين، بالإضافة إلى طرائق محتملة للوصول إلى مستوى مستقر من القوى. كما يجب أن تلعب هذه المراكز دوراً رئيسياً في بناء الثقة العامة، والثقة بجهود أجهزة الأمن الوطني، وهي التي توضح أهمية دول مجلس التعاون، ودور الشراكات مع القوى الخارجية (كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا). وينبغي أن يكون التقويم عاماً وشفافاً، كما يقول الباحث، وأن يستند إلى تحليل إقليمي يسمح لوسائل الإعلام والرأي العام بأن تضع ثقتها فيه. ويتعين على مؤسسات الفكر والبحث الخليجية بذل المزيد من الجهد لرسم الأولويات المشتركة لمهمات الردع والدفاع في مواجهة الخطر الإيراني. كما أن ثمة حاجة إلى إجراء دراسات كثيرة على نطاق دول مجلس التعاون، ووضع الخطط لمعالجة المجالات الرئيسية التي تحتاج لتحسين فوري في تعاون حقيقي بين دول المجلس. وإلى ذلك يضيف كوردسمان ضرورة إجراء دراسات حول شراء الأسلحة وتحديد الأولويات الحقيقية ومتطلبات الإنفاق الفعلي في هذا المجال، أخذاً في الاعتبار حقيقة قدرة دول الخليج العربية على اقتناء التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، ما يمنحها تفوقاً هائلا على إيران. ويؤكد الباحث على الحاجة إلى تقويمات مستقلة من دول مجلس التعاون ذاتها، حول إمكانية تطويرها قدرات ذاتية متكاملة، واستخدام قدرات بإمكان دول خارجية (مثل الولايات المتحدة) أن توفرها. كما أن التقويمات المستقلة مطلوبة أيضاً لتحديد كفاءة طريقة الدول الخليجية في استيراد الأسلحة، إذ يجب أن تدرس مثل هذه التقويمات إجراءات التعاقد، وتحديد الفاعلية، من حيث التكلفة وتحديد التوفير المحتمل الذي يقدمه التوحيد، وإمكان التشغيل المتداخل. ومن المهام الجديدة لمراكز البحوث الخليجية أيضاً، كما يوضح كوردسمان، المساعدة في مواجهة استخدام المتطرفين للإنترنت والهواتف المحمولة ووسائل الإعلام الأخرى، لذا عليها أن تستهدف الفئات العمرية الحرجة، وإجراء استطلاعات الرأي العام، وتحديد الأسباب التي تسهل للحركات المتطرفة تجنيد المتطوعين، والتركيز على الوصول إلى الشبان بدلا من مجرد إصدار بيانات رسمية. فحرب الأفكار تؤكد أن استخدام القوة لمكافحة الإرهاب لا يعالج إلا الأعراض ولا يمكنه استئصال المرض ذاته، وإنما ينبغي أن تشارك إلى جانبها مراكز القوة الناعمة. ومن ذلك يخلص كوردسمان إلى أن مؤسسات الفكر تمثل طريقاً رئيسياً للاستقرار والتطوير السلس، كما تساعد في تشكيل الرأي العام مع التركيز على الحقائق والخيارات العملية، مما لا يمكن لوسائل الإعلام والسياسة العادية والشبكات الاجتماعية وبنية المجتمع المدني.. القيام بمثله. وفي الفصل الثاني من الكتاب يتناول شارل سان برو «مرصد الدراسات الجيوسياسية» بوصفه مركز بحوث مستقل يركز في نشاطاته على مفاهيم جيوسياسية عدة. فقد تأسس في عام 2004 على أيدي مجموعة من الباحثين اشتهر معظمهم بأعمال مشهود لها بالدقة الأكاديمية. وهو مركز فرنسي يقع مقره الرئيسي في باريس وله مكتب للشرق الأدنى يعمل من بيروت وممثلون في العديد من العواصم العربية والأفريقية. ويركز المركز في نشاطاته على العالم العربي والإسلامي وإفريقيا والبلدان النامية، وحوار الحضارات، والنظام العالمي الجديد، والطاقة.. وغيرها من القضايا الجيوسياسية الرئيسية. ولا تقتصر أعمال المرصد على التحليلات الواقعية، بل تتسم دائماً باعتماد النظرة المستقبلية، وهو يدرس الاتجاهات العامة لتطور الأحداث العالمية، خاصة فيما يتعلق بدور فرنسا في العالم. وأخيراً يتطرق عبدالحق عزوزي في الفصل الثالث من الكتاب إلى واقع مراكز البحوث والدراسات في الوطن العرب، مقارناً إياها بالمراكز الغربية الرائدة في مجال البحث، وإلى كيفية توطين الدراسات الاستشرافية بالطريقة التي تجعلها تؤتي أكلها ويكثر الطلب على منتجاتها من أصحاب القرار وواضعي السياسات العامة. محمد ولد المنى الكتاب: المراكز البحثية ودورها في دعم السياسة العامة المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2017