أضحت السياسة الألمانية مثيرة للاهتمام بعد الانتخابات العامة التي جرت الأحد الماضي، وتصدر فيها حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» بقيادة أنجيلا ميركل النتائج بحصوله على 33% من الأصوات، غير أن تراجع تأييده بنسبة 8.5% ترك الحزب في حالة ضعف ووضع صعب. وما يزيد الأمر صعوبة هو أن أداء حزب «الاتحاد الديمقراطي الاجتماعي»، شريك حزب ميركل في الحكم، كان أسوأ، إذ حصل على 20.5% فقط من الأصوات، وبالطبع تشكل هذه معضلة كبرى أمام أقدم الأحزاب السياسية في ألمانيا الذي تتزعمه المستشارة ميركل. وقد استيقظ الألمان الاثنين الماضي يسألون أنفسهم عما سيحدث بعد ذلك، في ضوء الأداء القوي لسلسة الأحزاب الصغيرة في اليسار، مثل «دي لينك» الذي حصل على 9.2%، وفي الوسط مثل حزب «الخضر» الذي حقق 8.9% من الأصوات، و«الديمقراطيين الأحرار» الذي حقق 10.7%، والبداية القوية للحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا»، الذي حصل على 12.6% من الأصوات، وأضحى الجميع يتكهنون متسائلين: من سيحكم مع من؟ والإجابة على ذلك السؤال الصعب ليست سهلة، فألمانيا ديمقراطية برلمانية والمشرعون في «البوندستاج» (الغرفة الدنيا من البرلمان) سيجتمعون للتصويت على الحكومة، والتصويت بعد ذلك على من سيشغل منصب البرلمان، وبالنظر إلى أنه لا يوجد حزب يمتلك 50% من المقاعد، فذلك يعني أن حزبين (أو أكثر) سيتعين عليهما العمل معاً. وقضى خبراء السياسة وقتاً طويلاً للتفكير بشأن الأحزاب التي يمكنها العمل معاً في مواقف كهذه، وتشير خلاصة عملهم التي تبدو معقدة ومتناقضة أحياناً إلى ثلاثة أمور ضرورية، لكي تشكل الأحزاب حكومة ائتلافية: أولاً: للأعداد أهمية كبيرة، وعملياً يتعين أن يتحالف أقل عدد ممكن من الأحزاب يمكنه الحصول على أغلبية برلمانية لتشكيل الحكومة. ثانياً: يحتاج الشركاء إلى أن تكون بينهم بعض الصلات، ففي الواقع ليست الأرقام سوى نقطة بداية، لكنها قلّما تكون نقطة النهاية. وإمكانية تشكيل ائتلاف من الناحية العددية لا تعني أنه مقبول عملياً، وذلك لأن السياسات مهمة أيضاً، وهو ما يعني ضرورة وجود قواسم مشتركة في سياسات القوى الحزبية المشاركة في الائتلاف الحكومي. وأخيراً فإن الوضع السياسي مهم أيضاً، فحتى عندما تتقارب السياسات بقوة، قد لا تتمكن بعض الائتلافات من الاتفاق على كلمة سواء. ويرجع السبب في ذلك إلى الوضع السياسي، متمثلاً في الخلافات الشخصية، أو المواقف من القضايا التاريخية التي تجعل التعاون صعباً. وفي ضوء ذلك، قد تشكل ميركل ائتلافاً من ثلاثة أحزاب بالتعاون مع «الخضر» و«الليبراليين»، وبالتأكيد ستتمتع الأحزاب الثلاثة في مجملها بأغلبية واضحة في البرلمان المقبل، وهي متقاربة سياسياً. ورغم ذلك يتباين التقارب أمام اختلافات سياسية متجذِّرة، خصوصاً بشأن قضايا البيئة والحماية والهجرة والضرائب، فكل من حزب «الخضر» و«الليبراليين» يشعران بأنهما قويان بسبب قوة نتائجهما الانتخابية نسبياً، وغير مضطرين للدخول في مواءمات صعبة بعضهما مع بعض، وكلاهما سيبحث عن حوافز حقيقية لاسترضاء قواعدهما. وإلى ذلك فقد أمضى «الخضر» و«الليبراليون» وقتاً طويلاً في تبادل الانتقاد أكثر من العمل معاً، ولن يكون من السهل التوصل إلى اتفاق فيما بينهما. وينطوي الخيار الثاني على تحدٍّ أكبر بالنسبة لميركل، لأسباب مختلفة، إذ يمكن لحزبها إعادة تشكيل الحكومة الحالية، بدعوة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» مجدداً للحكم، ويرجع تعاون الحزبين طوال الأعوام الأربعة الماضية بشكل كبير إلى أنه لم يكن هناك خيار «ائتلاف حزبي» آخر. وقد تكبد الحزبان خسائر انتخابية الأحد الماضي، و«الحزب الديمقراطي الاشتراكي» خصوصاً يحتاج بعض الوقت لترتيب أوراقه، ورغم ذلك فالحزبان لديهما مقاعد أكثر من كافية لتشكيل الحكومة، وهما متقاربان براجماتياً بما يكفي للتعاون معاً، والدليل على ذلك وجودهما في السلطة خلال الأعوام الأربعة الماضية. لكن «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» استبعد ذلك الخيار، بسبب إدراكه أن ميركل برهنت على براعتها في ضم حلفائها عن كثب، تاركة شركاءها يكافحون لطرح أنفسهم عندما تقترب جولة انتخابات جديدة. ونسبة الـ20% التي حصل عليها «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» لا تشكل تراجعاً تاريخياً بالنسبة للحزب فحسب، بل أيضاً دلالة واضحة على أنه يحتاج إلى الانضمام إلى صفوف المعارضة، وتجديد نفسه وبدء مهمة توضيح مدى اختلافه عن حزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي». وفي ضوء العقبات الكبيرة في طريق الائتلافين الممكنين، قد لا يتشكل أي منهما، وسيكون الرهان الأقوى على حدوث انتخابات جديدة في وقت أقرب من المتوقع! دان هو: أستاذ السياسة في ساسكس - بريطانيا يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»