انتهت الإمبراطوريات، على أساس الدين أو المذهب أو القومية، فبعد الحرب العالمية الأولى بدأت الدول الوطنية. كان حامل الجنسية العثمانية يُقال له عثمانياً، ويعرف نفسه بالعراقي أو السوري، ومنحت الجنسية العراقية لكل حامل جنسية عثمانية يعيش على جبال وسهول وبطاح العراق، بمختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، فالعراق كان إقليماً تحت لواء إمبراطورية، ووالي بغداد يُسمَّى «وزير العراق» (العزاوي، العراق بين احتلالين). تبدل الولاء للإمبراطورية كخلافة إسلامية إلى الأوطان، وسرعان ما ظهرت الأحزاب المبنية على الأيديولوجيات، كعودة إلى الولاء للإمبراطورية لكن بأشكال أُخرى، فظهر الولاء المزدوج بين حدود الوطن وآفاق العقيدة. مثلاً كنا نسمع أن شخصاً أفغانياً كان عضواً في «الحزب الشّيوعي العراقي»، وقيل تولى منصباً بعد تولي «حزب الشعب الأفغاني» السلطة بكابول (أبريل 1978)، وانتظم فلسطينيون، وأشخاص من بلدان أُخرى، داخل الحزب على أساس وحدة ورابطة العقيدة الأُممية، مثلما تدرج يساريون عراقيون في منظمات فلسطينية يسارية. كذلك قادة كبار في «حزب البعث» الحاكم كانوا أردنيين وسوريين وسعوديين ويمنيين وسودانيين ولبنانيين، ولهم نفوذ داخل العراق، والبعثي من بلد عربي له سطوة يشعر بها العراقي غير البعثي. لكن ليس هناك مندوبون للسلطة الخارجية داخل بغداد، إنما إيواء أشخاص غير مرغوب بهم في بلدانهم سياسياً. أما في الوقت الحاضر فالأجنبي باستطاعته حجب حتى رئاسة الوزراء عن فلان لصالح فلان! لفتت نظري إلى هذا الموضوع ثلاثة مواقف، بالصوت والصورة، أن ينحاز صاحب العقيدة لبلد أجنبي ضد وطنه. يقول القومي «عاد تكليف الفرعون»، في مقابلة أجراها معه الإعلام حميد عبد الله: «مَن لا يحب عبد الناصر لا يكون وطنياً»! وكان هو ورفاقه يزودون السفارة المصرية ببغداد بتقارير عن الجيش العراقي، وقال: «إنه سيقف مع الجيش المصري إذا ما احتل العراق.. ولو كنا وطنيين عراقيين نعتبر أنفسنا خائنين» (فضائية الفلوجة 22/1/2017). سمَّى المتحدث الشخصيات التي تتولى كتابة تلك التقارير معه ورفعها للسفارة المصرية في عهد عبد الكريم قاسم (1958-1963): عدنان الراوي، وفاضل المشهداني، وهشام الشاوي وغيرهم. على الجانب الآخر يقول هادي العامري، مسؤول «منظمة بدر» والوزير وقائد «الحشد الشعبي»، في أواخر الحرب العراقية الإيرانية (1988): «نعم نحن مع الإمام (الخميني) لأننا نعلم أن الإمام هو الذي يُمثل الإسلام، رأي الإمام الآن وقف إطلاق النار فنحن مع الإمام حتى آخر قطرة دم، الإمام إذ يقول حرب، حرب» (فيديو على اليوتيوب). وهل تظنون أن استقبال واحتضان الأردني أبي مصعب الزرقاوي (قُتل 2006)، والمقاتلين من بلدان أجنبية، مِن الشيشان إلى أفغانستان وباكستان والبلدان الأوروبية، مِن قِبل سلفيين جهاديين عراقيين، كان خالياً مِن الولاء لآفاق العقيدة على حساب حدود الوطن؟! فهؤلاء تنادوا لبناء دولة الخلافة أو الإمارة، ولا وجود لأوطانهم في عواطفهم. كذلك يقول واثق البطاط، الذي يُقدم نفسه بأمين «حزب الله- العراق»: «سأُحارب مع إيران ضد العراق إذا حصلت حرب»، كما يقول إنه سيُقاتل مع الإمام المعصوم (المنتظر)، إذا قاتل بالهند أو أي بلد آخر، وإن الولي الفقيه بمثابة وكيل الإمام، والخميني على حق لأنه حارب صدام (الكافر). بينما رفض قائد الفرقة محمد رضا الجشعمي، وكان أسيراً لدى الإيرانيين عرضاً يتولى به قيادة فيلق «بدر»، ولأنه كان متديناً، غير محسوب على حزب بما فيه «البعث»، استفتى ووصله جواب من أبي القاسم الخوئي (ت 1992) عن صحة مشاركته في الحرب ضد بلد مسلم، فأفتاه أن موقفه صحيح في الحرب ضد الجيش الإيراني وهو يحتل الأرض العراقية، فالخوئي يقر بالجهاد الدفاعي لا البدائي، وهنا يلتزم المرجع بمنطق الفقه، لا منطق الانتماء البلداني. كان الفريق الجشعمي يتحدث لحميد عبد الله من فضائية الفلوجة أيضاً (شهادات خاصة)، بهذا الولاء الوطني لأنه كان خالياً من عقيدة حزبية، ولم يُشرفه لقب «التواب»، حتى أن صدام (أعدم 2006) قرر فك أسره بوزير النفط الإيراني الأسير لدى العراق، لكن الأخير توفي، ثم فُك أسره مع مجموعة قليلة بأكثر من مئتي أسير إيراني (1991). إن التواطؤ مع الأجنبي فظيع، لكن الأشد فظاعة أن يكون على أساس العقيدة الدينية؛ لارتباطه بالقداسة الإلهية، ولسان الحال يقول: فلتذهب البلاد وما عليها إلى الجحيم من أجل تنفيذ أمر وكيل الإمام أو الأمير، بهتك حدود الوطن إلى آفاق العقيدة! بعد هذا، أقول: هل يُعقد على قوى تقود الأوطان برايات الخارج أمل في حلّ ما استحكم مِن مصائب؟! للمتنبي (قُتل 354هـ) وبه نرثي وطناً: «لأيِّ صُروفِ الدَّهْرِ فيه نُعاتِبُ/ وأَيَّ رزاياهُ بوترٍ نُطالِبُ/مصائبُ شتى في مُصيبةٍ/ ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائبُ ».