من يتابع حملة التوقيفات والمداهمات التي تقوم بها الشرطة الإسبانية في منطقة كاتالونيا ضد منتخبين ورجالات دولة‏? ?مؤيدين ?للانفصال، ?قد يظن ?أنه ?يتابع ?فيلما ?هوليوودياً، ?لأن ?هذا ?البلد ?قطع ?منذ ?وفاة ?فرانكو ?خطوات ?كبيرة ?في ?مجال ?تثبيت ?الديمقراطية، ?ويعتبر ?في ?سلم ?المؤشرات ?الدولية ?من ?الدول ?الديمقراطية ?التي ?تحترم ?حقوق ?الإنسان ?والحريات ?العامة. ?كما ?أن ?هذا ?البلد ?يعتبر أيضاً، ?ولعقود ?خلت، ?نموذجاً ?يحتذى ?به ?في ?مجال اللامركزية ?المتقدمة، ?لأن ?قوانينه ?تعطي ?للحكومات ?الإقليمية ?اختصاصات ?موسعة، ?حيث ?تكون ?مسؤولة ?عن ?المدارس ?والجامعات ?والصحة ?والخدمات ?الاجتماعية، ?والثقافة، ?والتنمية ?الحضرية ?والريفية، ?وفي ?بعض ?الأماكن ?تكون ?لها ?مسؤولية ?الشرطة. والكاتالونيون يريدون الانفصال عن المركز ويفضلون الاستفادة من خيرات منطقتهم لوحدهم، في أنانية غريبة وحب للذات وتنصل من الحكومة المركزية بل ومن الدولة نفسها، وهو يعكس بجلاء ما يمكن أن تصل إليه النزعة الأنانية في الدول الديمقراطية. ولفهم هذه الميول الانفصالية، يتعين أن نستحضر أن مقاطعة كاتالونيا تضم، من خلال مدينة برشلونة الساحلية الشهيرة، واحداً من أكبر الموانئ التجارية في الفضاء المتوسطي، وأربعة مطارات دولية، ومنشآت ضخمة للصناعات الدوائية، كما أيضاً أنها تحتضن مقرات بعض أكبر الشركات متعددة الجنسيات في العالم، مثل عملاق صناعة النسيج «إنديجو». أما على المستوى السياسي والإداري، فكاتالونيا على غرار بقية المقاطعات ذاتية الحكم، مثل أندلوسيا والكناري وجاليسيا، يوجد فيها برلمان وحكومة، وهي تهتم بشكل خاص بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، ولديها جهاز شرطة خاص بها. هذا من جهة، ولكنك عندما تبحث باستفاضة عن السبب الحقيقي الذي يدفع الكاتالونيين للمطالبة بالانفصال، ستجده اقتصادياً ومادياً صرفاً، فالمنطقة تتصرف في نصف عائدات الضرائب، وتتسلم الحكومة الإسبانية المركزية النصف الآخر، وهذا ما لا يستسيغه الانفصاليون: فهم يريدون منح نسبة بسيطة منها للحكومة المركزية في مقابل الخدمات التي تقدمها هذه الأخيرة لها، كما أنها أيضاً ترفض سياسة مساندة المناطق الغنية للمناطق الفقيرة في إسبانيا، وهذا ما يفسر في نظر العديد من المسؤولين الانفصاليين نسبة العجز الميزاني في المنطقة، والوضع ما كان ليصبح بهذه الكارثية في نظرهم لو تم تعديل نظام ضبط الموازنات. وفي نظري فإن المشكل، أولاً وقبل كل شيء، أخلاقي بالدرجة الأولى. تصوروا معي لو كانت المنطقة فقيرة؟ أيجرؤ أحد على المطالبة بل، وحتى التفكير في الانفصال؟ لا أظن ذلك إطلاقاً. ومن هنا يمكن افتراض فشل الدولة الإسبانية والنظام الإداري المطبق فيها في تثبيت قواعد المواطنة للجميع، ومن هنا أيضاً المرض العضال الذي بدأ يصيب الإنسان الأوروبي، وهو التفكير في نفسه وفي محيطه الضيق، حيث لا تهمه إلا مصلحته ومصلحة هذا المحيط، ولا تهمه البتة مصلحة المجتمع ولا الدولة الأم. أما الدولة/ ?المركز، ?فهي ?تفكر ?بمناظير ?لا ?تتوفر ?عليها ?المناطق ?ذات ?الحكم ?الذاتي... ?فهي ?تفكر ?في ?مصلحة ?الجميع، ?وفي ?ضرورة ?حسن ?توزيع ?الثروات، ?وفي ?إخراج ?المناطق ?الفقيرة ?إلى ?عالم ?التنمية، ?وفي ?الحفاظ ?على ?القشرة ?الحامية ?لوحدة ?الدولة، ?وإلا ?انهارت ?في ?رمشة ?عين. و?لذا ?يعتبر ?رئيس ?الحكومة ?الإسباني ?في ?كل ?تدخلاته ?أن ?إعلان ?كاتالونيا ?لانفصالها ?مخالف ?للدستور ?الإسباني، ?لأنه ?يتعارض ?مع ?الفصل ?الثاني ?الذي ?ينص ?على ?وحدة ?الدولة ?والحق ?في ?الحكم ?الذاتي، ?والذي ?يقر ?بحق ?المقاطعات ?في ?تسيير ?شؤونها ?بنفسها، ?ولكن ?يمنع ?بشكل ?قاطع ?انفصالها، ?بمعنى ?أن ?أحلام ?الكاتالونيين ?غير ?قانونية ?وغير ?دستورية ?في ?نظر ?القانون، ?رغم ?إصرار ?أرتور ?ماس، ?الرئيس ?الانفصالي ?للمقاطعة، ?على ?تحقيق ?هذه ?الأحلام. وفي الختام نشر بنك «ناتيكسيس» الإسباني تقريراً في غاية السوداوية مفاده أن مدينة برشلونة ستخسر الكثير إذا انفصلت عن السلطة المركزية، من خلال انخفاض عائداتها من التصدير ومغادرة العديد من الشركات العالمية المتمركزة في كاتالونيا التي لن ترغب في تحمل تبعات مغادرة هذه المقاطعة للسوق الأوروبية المشتركة... وهذا التقرير الواقعي يعبر عن ضيق رؤية الانفصاليين أينما كانوا ويضع السلطة المركزية في حرج كبير داخلياً وخارجياً، بين ضرورة استعمال القوة لإيقاف الغطرسة الأنانية الانفصالية وبين الخضوع لقواعد الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، تلك الوسيلة العجيبة التي ولدت من رحم الديمقراطية لتصفع في الكثير من الأحيان قواعد الوحدة بل وقواعد الديمقراطية نفسها.