مع الاستفتاء المرتقب في كردستان العراق، والاستفتاء الآخر المنظور في إقليم كاتالونيا الإسباني، تطرح مجدداً الإشكالات الجوهرية المتعلقة بالعلاقة العضوية التي قامت في القرنين الأخيرين بين الدولة والقومية، بحيث أصبحت «الدولة القومية» هي البديل الحداثي عن نموذج الدولة الإمبراطورية التاريخية. ما يجري اليوم في العراق وإسبانيا وفي مناطق أخرى عديدة في العالم، يتعلق بتصادم مبدأين مرجعيين أساسيين في العقل السياسي الحديث: حق تقرير المصير للقوميات في مطلبها لتشكيل بناء سياسي يعبر عن هويتها الخصوصية على غرار الأمم الأخرى التي لها دول قومية، ومبدأ سيادة الدولة الذي يضمن وحدتها الإقليمية ضمن حدودها المعترف بها دولياً. صحيح أن العالم شهد بعد نهاية الحرب الباردة (في تسعينيات القرن الماضي) ظهور عدة دول جديدة كانت في غالبها نتاج تفكك الإمبراطورية السّوفييتية والبلدان المرتبطة بها، كما أن بلدين مستقلين جديدين ظهرا في أفريقيا هما إريتريا وجنوب السودان، بيد أن المنظومة الدولية حافظت إجمالاً على أولوية سيادة الدول على المطالب الانفصالية للمجموعات القومية من منظور اعتبارات السلم العالمي. ما يحدث راهناً ليس ظواهر معزولة، بل له ارتباط وثيق بأزمة الدولة الوطنية، على رغم خصوصية الحالة الكردية التي هي من الآثار الباقية لتفكك الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن الماضي. ولا يعني الأمر هنا الانسياق وراء الأطروحة السائدة حالياً حول التناقض القائم بين منطق العولمة الاقتصادية ومنطق الدولة الوطنية السيادية الذي يفسر انفجار الهويات القومية الخصوصية، وإنما المقصود هو التنبيه إلى أن الدولة القومية عانت منذ نشأتها في العصور الحديثة من اختلالات جوهرية في تصورها المزدوج للهوية: الهوية السياسية التي يكرسها مبدأ المواطنة والهوية الثقافية التي يكرسها مبدأ الجماعة العضوية. ففي حين نادراً ما تنسجم الهوية السياسية مع الهوية القومية؛ لأن أغلب بلدان العالم متعددة النسيج القومي والديني، تنزع الدولة الوطنية الحديثة -على عكس الدولة الإمبراطورية السابقة- إلى فرض الانسجام الثقافي واللغوي في نسيجها الاجتماعي، بالقوة والإكراه أحياناً (كما كان الشأن في الدول الأوروبية الكبرى قبل الثورات الديمقراطية) وبالآليات القانونية والتربوية والإدارية غالباً. ومع أن أغلب الباحثين في الفكر القومي الأوروبي الحديث يميزون بين تصورين للأمة: التصور الفرنسي القائم على فكرة المواطنة ضمن منظور مركزي للدولة، والتصور الألماني القائم على المقومات الثقافية والتاريخية، فإن التصورين يلتقيان في محورية الدولة القادرة عن التعبير عن الهوية الجماعية، أي بعبارة أخرى أن الدولة هي الشرط الضروري للانتقال من مستوى «الجمهور» المشتت أو «الشعب» إلى مستوى الأمة. ما يبدو إذن تعارضاً بين منطق البناء القومي والبناء السياسي، أي بين المجموعة العضوية المغلقة والمجموعة السياسية المفتوحة التي تتأسس على المواطنة والتعاقد القانوني، هو في حقيقته الخلفية العميقة للدولة الوطنية الحديثة التي انتهت إلى نمط من الصياغة «القومية الليبرالية». وكما يُبين عالم السياسة الفرنسي «جان فرانسوا بيار» في كتابه الأخير «المأزق القومي الليبرالي» فليست العولمة الراهنة هي سبب هذا الانزياح المتزايد بين مقتضيات الكونية والقومية والمحلية، بل إن الحداثة الرأسمالية الليبرالية قامت تاريخياً على محددات ثلاثة مترابطة وإن كانت متعارضة في التوجه: حركيّة الاندماج ذات المنحى الاقتصادي التي لها آثارها الضرورية على انتقال البضائع والأشخاص والأفكار والمعتقدات، وحركيّة نشوء الدولة الوطنية السيادية؛ أي الدولة المركزية القومية ذات المؤهلات الفاعلة لضبط التبادل التجاري والبشري، وحركية الانكفاء القومي وانفجار الخصوصيات المحلية الضيقة. ومن هذا المنظور ندرك أن الدولة القومية ليست في طور الانهيار والتراجع، بل إنها غدت أكثر قوة وتحكماً نتيجة للتقنيات الاتصالية والمعلوماتية الحديثة التي قلصت حاجتها للإكراه والضبط، بل إن الحاجة ازدادت إليها لإدارة الأزمات المالية والاقتصادية العالمية التي يظل رهانها الأكبر -كما بينت التحولات الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا- الحصول على أكبر استفادة ممكنة من حركيّة الاندماج الكوني من خلال توطيد الدولة المركزية في مقابل القوى الدولية المنافسة. كما أن ما نلمسه اليوم من انفجار المطالب الانفصالية القومية يندرج في سياق الموجة الليبرالية الرأسمالية الحديثة التي بلورت فكرة الترجمة السياسية للهويات الخصوصية، وبذا يمكن القول إن السياسات الاستعمارية والمقاربات الإثنوغرافية الغربية هي التي أنتجت أنماط الهويات العرقية والطائفية والقبلية في مجتمعات متنوعة طورت تاريخياً آليات اندماج تعايش لم تعد فاعلة اليوم، وقد أصبحت ترى في نموذج الدولة الوطنية السيادية الإطار الشرعي للتعبير عن هوياتها المختلفة، وخصوصاً في البلدان التي فشلت الدولة الحديثة في تكريس هوية المواطنة القائمة على المساواة والحريّة. ----------------- * أكاديمي موريتاني