في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، توفيت طفلة تدعى «صوفيا»، تبلغ من العمر أربعة أعوام، بسبب مرض الملاريا. وعلى رغم أن طفيلي الملاريا يقتل نحو نصف مليون شخص سنوياً، إلا أن الغريب في هذا الخبر أن هذه الطفلة لقيت حتفها في إحدى مدن شمال إيطاليا، وهي منطقة خالية من المرض تماماً، ضمن بلد خال من الملاريا منذ عقد الخمسينيات، وحتى من البعوض الناقل للمرض، بعد أن تم تجفيف المستنقعات التي يعتمد عليها في التكاثر منذ نحو سبعة عقود. وأمام هذه الحالة الغريبة، طرحت عدة تفسيرات، منها أنها ربما قد تكون بسبب التغيرات المناخية التي يتعرض لها الكوكب حالياً، وبالتحديد ظاهرة الاحتباس الحراري، وما ينتج عنها من دفء عالمي، ترتفع معه حرارة الجو، مما يسمح لبعض الحشرات الناقلة لأمراض معدية ترتبط بالمناطق الدافئة، بتوسيع مدى ونطاق انتشارها الجغرافي، لتصل إلى دول ومناطق كانت تتميز سابقاً بالمناخ البارد. وقبل أن ينقضي نفس الشهر نشر فرع وحدة أبحاث طب المناطق الاستوائية التابع لجامعة «أوكسفورد» في تايلاند، تقريراً في إحدى الدوريات الطبية المتخصصة في الأمراض الاستوائية (Lancet Infectious Diseases) حذر فيه العلماء من أحد أنواع الطفيلي المسبب للمرض، والمعروف بالـ«سوبر ملاريا»، بسبب مقاومته لعدد من الأدوية والعقاقير الرئيسية والأساسية المستخدمة في العلاج. وكان نوع الطفيلي هذا، قد ظهر بداية في كمبوديا، ولكن سرعان ما انتشر إلى أجزاء من تايلاند ولاوس، ومؤخراً وصل إلى مناطق جنوب فيتنام. وبخلاف سرعة الانتشار الكبيرة لهذا النوع من الطفيلي، تتزايد مخاوف العلماء والأطباء من قدرته الفائقة على مقاومة حزمة الأدوية والعقاقير المعروفة بمضادات الملاريا، إلى درجة أن نسبة فشل العلاج وصلت إلى 30 في المئة من الحالات في فيتنام، وبلغت 60 في كمبوديا. وترتكز مخاوف العلماء حول احتمال بلوغ هذا الصنف من الطفيلي إلى القارة الأفريقية، التي تتحمل حالياً عبء 90 في المئة من جميع حالات الإصابة حول العالم. وبالنظر إلى أن الملاريا تصيب نحو 220 مليون شخص سنوياً، فإذا ما اتسع المدى والنطاق الجغرافي لصنف الطفيلي المقاوم للأدوية والعقاقير، يمكن أن يتضاعف حينها عدد الوفيات الحالي الذي يقارب نصف مليون وفاة سنوياً، ليصل إلى عدة ملايين، أو ربما حتى عشرات الملايين في أسوأ سيناريو محتمل، وهو ما سيشكل كارثة صحية عالمية بكل المقاييس. وليس من المبالغة في شيء النظر إلى طفيلي الملاريا على أنه إحدى القوى الرئيسية التي لعبت دوراً مهماً في تحديد مسار التاريخ البشري في العديد من مراحله، حيث تظهر الدراسات الأثرية، أن طفيلي الملاريا قد ظل يصيب أفراد الجنس البشري على مدار أكثر من 50 ألف عام، وهو ما يعني أن هذا الطفيلي ظل يتغذى فعلياً على دماء البشر منذ اليوم الأول الذي وطئت فيه أقدامهم سطح هذا الكوكب. وحتى يومنا هذا، لا زال طفيلي الملاريا أيضاً من أهم القوى المؤثرة في مقدرات البشر في العديد من مناطق العالم، حيث تصنف الملاريا ضمن أكثر الأمراض المعدية فتكاً بالبشر على الإطلاق، وخصوصاً بين الأطفال، حيث تشير التقديرات إلى وفاة طفل بالملاريا كل 30 ثانية. وزيادة على هذا الثمن الإنساني الفادح، الذي ربما لا يضاهي فيه الملاريا غير فيروس الإيدز، وميكروب السل، يتسبب طفيلي الملاريا أيضاً في خفض الناتج الاقتصادي الإجمالي للدول المستوطن فيها المرض. وأمام ظاهرة تزايد قدرة الطفيلي على المقاومة المتاح حالياً من أدوية وعقاقير تستخدم للعلاج، يبدو أن طفيلي الملاريا الذي اعتمد على دماء البشر لعشرات الآلاف من السنين في النمو والتكاثر والانتشار، لا ينوي أيضاً الاستسلام للهزيمة بسهولة. وجدير بالذكر أنه خلال عقد الستينيات وبداية عقد السبعينيات كان معدل الإصابة بالملاريا بين سكان دولة الإمارات يتراوح بين 30 إلى 60 في المئة، حسب تقديرات وزارة الصحة. ومع بدء تطبيق استراتيجية المكافحة الشاملة منذ عام 1977، نجحت الجهات الصحية المحلية في خفض معدلات الإصابة بأكثر من 70 في المئة بحلول عام 1985، وتوقف انتقال المرض كلياً عام 1998. ونجحت الإمارات منذ ذلك الوقت في الحفاظ على وضعها كأول دولة في إقليم شرق المتوسط يتأكد لمنظمة الصحة العالمية والهيئات الصحية الدولية خلوها من المرض نهائياً.