مجدداً، كانت ألمانيا على موعد مع اختبار آخر لشعبية مستشارتها القوية أنجيلا ميركل، والتي ظلت متقدمة على منافسيها في استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات أمس الأحد التشريعية، فيما حل في المرتبة الثانية بعدها مباشرة زعيم «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني»، مارتن شولتز، الذي عقد آخر اجتماعاته الانتخابية في «إكس-لا-شابيل» بغربي البلاد، قرب مسقط رأسه، مساء أول أمس السبت. ولئن كان الفوز شبه محسوم لميركل، فإنها ستكون مضطرة للاستمرار في التحالف مع الديمقراطيين الاجتماعيين بزعامة شولتز الذي قال إن «السنوات الأربع المقبلة يجب أن لا تكون سنوات جمود وسبات»، مندداً بـ«سياسة التنويم» التي قال إن ميركل تنتهجها. فمن هو مارتن شولتز؟ وماذا عن مكانته في الحياة السياسية الألمانية خصوصاً والأوروبية عموماً؟ إنه سياسي ألماني ورئيس «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني»، ورئيس البرلمان الأوروبي السابق، حليف ميركل ومنافسها الأقوى في انتخابات أمس الأحد. وقد ولد مارتن شولتز في مدينة «إيشفايلر» بمقاطعة «آخن» في غرب ألمانيا بالقُرب من الحدود مع هولندا وبلجيكا، وكان أحد خمسة أطفال لأب يعمل شرطياً محلياً. وتلقى تعليمه في مدرسة تابعة لـ«جمعية الروح القدس»، لكنه تركها في عام 1975 بعد محاولتين فاشلتين للحصول على شهادة الثانوية العامة، ليدخل مجال المكتبات ودور النشر، حيث خضع لتدريب مهني في هذا المجال مدة عام، ثم عمل في عدة مكتبات ودور للنشر، إلى أن أسس في عام 1982 مكتبته الخاصة في «ورسلن» بـ«شمال الراين – فستفالن»، والتي ظل يديرها حتى عام 1994. وفي تلك الأثناء كان لشولتز نشاطه السياسي المتزايد، إذ كان قد انضم في سن التاسعة عشرة من عمره، أي في عام 1974، إلى «الحزب الاجتماعي الديمقراطي الألماني»، وبعد عشر سنوات من ذلك التاريخ انتخب ممثلاً عن الحزب في المجلس البلدي لمدينة ورسلن، ثم أصبح رئيساً لبلدية المدينة عام 1987، فكان في حينه أصغر رئيس بلدية في «شمال الراين -وستفاليا»، وظل في ذلك المنصب حتى عام 1998. وقبل أربع سنوات من ذلك التاريخ انتخب شولتز في البرلمان الأوروبي، وفي الفترة بين عامي 2000 و2004 كان رئيساً لوفد «الحزب الديمقراطي الاجتماعي»، وشارك في بعض اللجان البرلمانية، مثل لجنة العدالة والحريات المدنية ولجنة الشؤون الداخلية واللجنة الفرعية لحقوق الإنسان، كما كان نائباً لرئيس المجموعة البرلمانية لـ«الحزب الاشتراكي الأوروبي» في البرلمان الأوروبي، قبل أن يصبح زعيماً للمجموعة، خلفاً للإسباني «إنريكي بارون كريسبو» في عام 2004. وفي ذلك العام قاد شولتز حملة ضد «روكو بوتيغليوني»، المرشح الإيطالي لغضوية المفوضية الأوروبية، بسبب آرائه المحافظة حول وضع المرأة وزواج المثليين.. مما اضطر روما لاستبدال «بوتيغليوني» بـ«فرانكو فراتيني». وبمقتضى تفاهم بين «الحزب الاشتراكي الأوروبي» (يسار) و«الحزب الشعبي الأوروبي» (يمين محافظ)، تم الاتفاق على أن يحل شولتز محل النائب البولند «جيرزي بوزيك» على رأس البرلمان الأوروبي، فتم انتخابه في يناير 2012 بـ 387 صوتاً من أصل 670، أي ما يمثل 58% من الأصوات المعبَّر عنها. ثم أعيد انتخابه لهذا المنصب في يوليو 2014 قبل أن يغادره في يناير الماضي عائداً إلى ألمانيا وإلى حزبه «الديمقراطي الاجتماعي». وكان شولتز قد أصبح في عام 2009 نائباً لرئيس الحزب للشؤون الأوروبية، وقد أثَّرت آراؤه بعمق في السياسة المؤيدة لأوروبا في حزبه المشارك في الحكومة الألمانية وفي ألمانيا عموماً. وفي يناير الماضي أعلن «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني» نيته ترشيح شولتز لقيادته في انتخابات سبتمبر 2017 التشريعية، بعد إعلان رئيس الحزب في حينه (وزير الخارجية الحالي سيغمار غابرييل) أنه لن يترشح للمنصب، بسبب تدني شعبيته، وأن اختيار شولتز تم بإجماع قيادة الحزب. وخلال الانتخابات التمهيدية في مارس، تم انتخاب شولتز بنسبة فوز غير مسبوقة في تاريخ الحزب، ليصبح رئيسه ومرشحه لمنصب المستشارية في مواجهة ميركل. ويعد «الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني» من أقدم وأكبر الأحزاب السياسية في ألمانيا. وهو يدعو في الوقت الحالي إلى تحديث الاقتصاد لتلبية مطالب العولمة، ويشدد في الوقت ذاته على معالجة الاحتياجات الاجتماعية للعمال والفئات المحرومة. وقد تأسس الحزب في عام 1875، إثر اندماج حركتين اشتراكيتين ألمانيتين، ثم تبنى أفكار كارل ماركس الاشتراكية الثورية بشكل صريح عام 1891. وإثر تأييده الحرب العالميةَ الأولى انشق عنه جناح اعتبرها «حرباً إمبريالية لاقتسام المستعمرات». ثم تم حظر الحزب رسمياً في عام 1933 بعد صعود هتلر وحزبه النازي إلى السلطة، وتم سجن وتعذيب معظم أعضائه. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا وانقسامها، انقسم «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» أيضاً إلى حزب شرقي اتحد مع الحزب الشيوعي في «حزب الوحدة الاشتراكية» الذي حكم ألمانيا الشرقية حتى عام 1989، وحزب غربي سرعان ما تخلى عن الماركسية وتوجه نحو الفكر الاشتراكي الليبرالي، وساهم في بناء اقتصاد السوق في ألمانيا الغربية بعد صعوده إلى الحكم عام 1966 كجزء من تحالف حكومي ضم المسيحيين الديمقراطيين. وبعد إعادة توحيد ألمانيا عام 1990، انضم إليه الديمقراطيون الاشتراكيون الشرقيون، وفاز في عام 2005 ضمن تحالف انتخابي كبير، ضم إلى جانبه كلاً من «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» و«الاتحاد الاجتماعي المسيحي»، وأصبحوا شركاء في الحكم منذ ذلك الوقت. لكن هل يستمر ذلك التحالف الثلاثي بعد انتخابات أمس الأحد؟ سجل شولتز منذ مطلع العام الجاري تقدماً ملحوظاً في استطلاعات الرأي، وذلك بفضل قدراته الخطابية المعروفة، ولكونه لم يشغل أي منصب مهم في ألمانيا، مما سمح له بالإفلات من تبني السياسة الحكومية التي يتبعها حزبه في إطار التحالف الحاكم. كما أن مسيرته غير العادية وأصوله الشعبية المتواضعة، تخفف من صورة ارتباطه بالمفوضية الأوروبية، وهو أمر مفيد في ظل هيمنة تيار التشكيك في جدوى الوحدة الأوروبية داخل بلدان القارة. بيد أن خطاب شولتز لم يكن فعالاً طوال الحملة الانتخابية لحزبه، ولم تلق وعوده بالعمل من أجل مزيد من العدالة الاجتماعية والسياسات التدخلية في السوق صدى كبيراً في بلد مزدهر اقتصادياً وبه معدل بطالة منخفض للغاية. ومع ذلك فإن نظرة على الخريطة الحزبية الألمانية، قبل انتخابات أمس وبعدها، تسمح بالقول إنه يصعب على ميركل الاستغناء نهائياً عن التحالف مع شولتز وحزبه، صاحب المرتبة الثانية في البرلمان، لتشكيل حكومتها القادمة. محمد ولد المنى