يحتفل العالم العربي والإسلامي ببدء السنة الهجرية الجديدة 1439، فكل عام وأنتم بخير، كانت أمتنا تقدم للبشرية أروع نماذج الحكم الرشيد، وتشارك الكون أجمل إنجازاته، في عمارة البشر وبناء الحجر، فبالعدل تحضرنا وقدنا وبالعقل تقدمنا وسدنا، بيد أن الحضارات كما قال العلامة بن خلدون تمر بمراحل تقدم وتقهقر كما هو الإنسان يولد طفلاً، ويضحى شاباً قوياً، ثم يرد إلى أرذل العمر. لكن التاريخ علمنا أن العودة للجذور تمكن الحضارات التي كانت توشك على الفناء من العودة للصدارة، إنْ عرفت الأمم أسرار القيادة وأركان الحضارة، فاليابان مثلاً كادت بعد الحرب العالمية الثانية أن تفقد رصيدها في البشرية وتنهار مع القنابل الذرية، لكنها تعد اليوم دولة تشارك العالم إنجازاته وتطلعاته. كوريا نموذج آخر للنهوض بعد السقوط، بل حتى أوروبا التي اكتوت بنيران الحروب بين الجيران استطاعت أن تعود للحياة بنفس جديد. فكر عريق له جذوره الممتدة وتطلعاته السامقة، فهل يعي العرب هذا الدرس؟ ما تمر به منطقتنا من مطبات وما تشهده من أزمات لا أنظر إليها بعين تتلمس العجز والتخلف، لكنني أبصر هذه المحن بعقل متيقن بأننا أمة جربت المرض آن لها أن تتعافى منه. حياة جديدة تنتظرنا مع تقادم الأيام، فأعمار الأمم لا تقاس بسنوات الأجيال، من يقيم تاريخنا المعاصر يجد أننا مررنا بتجارب مريرة، فبعد الاستعمار المباشر للدول العربية، لم تتمكن جلها من وضع أقدامها في ركب الحضارات، بل مرت بتعرجات مؤلمة وأزمات قاتلة. فمن حروب مع أعداء الخارج إلى صراع على الحكم بين أحزاب كان آخر همها مصلحة أوطانها. والنتيجة ما نشهده اليوم، لكن دركات السقوط المؤلمة في طياتها دروس متعلمة. أول درس يرتبط بهوية هذه الأمة، فلسنا نبتة بل نحن شجرة سامقة عروقها ثابتة. لقد جربنا استيراد أفكار غريبة علينا، ومن سمات العرب التطرف في فكرهم فكان منا شيوعي متطرف أكثر من ماركس في فكره، وقومي متعصب لمذهبه، وإسلامي قتل أخاه لخلاف مع جماعته.. نماذج من الفشل الفكري أبعدتنا عن ركب الحضارة وقادتنا إلى صرعات فكرية وحيرة مذهبية شتت جهود أبناء الوطن الواحد، وجعلت الشك يسبق الثقة في علاقاتنا بإخواننا، أول خطوة هي الهوية الفكرية، فإن تمكنا من معرفة من نحن وماذا نريد، سنعود مرة أخرى لصدارة البشرية.. لقد ضاعت الوطنية بين العلمانية والإسلامية. الأمر الثاني لا ينفصل عن الهوية مرتبط باللغة القومية. وكم فرحت كتربوي بمبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الرامية إلى ترجمة 11 مليون كلمة، الهدف هو تعريب أحد اكبر مواقع تعليم الرياضيات والعلوم. خطوة مباركة في إصلاح التعليم الذي ترنح تحت ضغط التدريس بغير العربية. هل رأيتم حضارة سادت البشرية وقد تبرأت من لغتها القومية؟! ليس من العيب أن نقول إننا اخطأنا الطريق، لأن الأمم القوية عندها الشجاعة الأدبية لإعادة النظر في مسيرتها العلمية والتعليمية.. لسنا فرنسيين كي ندرس بالفرنسية، أو بريطانيين كي نتعلم بالإنجليزية نحن أمة عربية. التحول الثالث في الأمة العربية يتلخص في الاقتصاد. فالأمم القوية ثرية بإنتاجها الاقتصادي المتنوع، ولن تنجح أمة تستورد كل ماتحتاجه من غيرها، وتصدر لهم ثرواتها الأولية.. الاقتصاد الناجح له مؤشراته ومسبباته لكن أهمها وجود إدارة وطنية مخلصة مزودة بمعرفة متخصصة مرتبطة بحوكمة عادلة. كل ما سبق قوله لن ينجح إذا لم نحترم عقل الإنسان، ونهيئ له حرية التفكير والتعبير من دون خرق لقانون عام، أو تهديد للسلام.. فالعقول الراجحة ليست بضاعة تُستورد من الخارج، بل هي صناعة وطنية.