تسارع الأحداث في غزّة، والتطورات الأخيرة المفاجئة فيها، لم تفسح لنا المجال لسماع جواب «حماس» على الطلب الإيراني الأخير بشكرها علناً على مساعداتها لها. فقد غيّر المشهد في غزة انهيار «دويلة الإخوان المسلمين» في القطاع المحاصر، بعد أعوام من الانفراد بالسلطة والتجارب الأصولية المتشددة والمغامرات الصاروخية المرتجلة والاستعانة بإخوان مصر والتنظيم الدولي وتركيا وإيران.. ووصلت التجربة المبتسرة إلى نهايتها وتسليم نفسها للسلطات! ونشرت «القبس» الكويتية أن إيران طلبت من رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، أن تشكر الحركة إيران على مساعدتها لها، شرطاً لإعادة العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها، وبيّن المصدر استياء «الحرس الثوري» الإيراني من التقارب الفلسطيني المصري، ومن محاولة «حماس» الابتعاد عن طهران. ليس من المستبعد أن يعمد بعض قادة «حماس» عندما يكتبون مذكراتهم أو سيرهم الذاتية عندما تسنح الفرصة، إلى إطالة الحديث عن الحصار والمؤامرات وقسوة الظروف والضغوط. لكنهم على الأرجح لن يقولوا إلا بضع عبارات عن اندفاعهم ومغامرتهم وانفرادهم بالسلطة، وهم يدركون حقيقة ما يفعلون، ويعرفون مشاكل الوضع الفلسطيني، ودقة المرحلة العربية، وتوازن القوى الإقليمية وغير ذلك. وقد عُرف مراراً في تجارب المنطقة، أن الهيمنة العسكرية والحزبية الشعاراتية أمر سهل بمزيج من الوطنية والإسلامية الأصولية غير القابلة للتحقيق، كما فعلت «حماس» في موقفها من القضية الفلسطينية لخداع جمهور يائس بائس. لكن ما عقوبة الفشل في الإيفاء بالوعود؟ ومن سيدفع فواتير المغامرة والتشدد؟ كل من يقرأ تاريخ المدينة والقطاع يدرك عراقتها والمحن التي مرت بها عبر القرون. فقد كانت قاعدة حملات الفراعنة القدامى على سوريا، ومقر عبادة الآلهة التي دمّر شمشون معبدها، وأن الملك سرجون والإسكندر الأكبر والسلوقيون والرومان واليهود والعرب ونابليون قاموا باحتلالها، وأنها كانت ميدان معارك بين الإنجليز والأتراك.. حتى دخلها الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948. وفي السنوات الأخيرة عاش سكانها ظروفاً بالغة القسوة، وارتفعت فيها معدلات الاكتئاب والتفكير بالانتحار. وتوضح إحصاءات أعدتها مؤسسات مختصة أن أكثر من 55?من عائلات القطاع تعيش تحت خط الفقر الشديد، وتواجه 73? من العائلات في غزة ارتفاعاً في حوادث العنف الاجتماعي، بحسب ما تكشفه هذه الإحصاءات. وتذكر صحيفة «الشرق الأوسط» أن المراقبين يربطون حالات الانتحار الفعلية والمحاولات الفاشلة بالواقع الاقتصادي وانتشار البطالة وارتفاع نسب الفقر المدقع في «المجتمع الغزي». وشهدت نسب البطالة في القطاع ارتفاعاً كبيراً تجاوز 60?، وأفاد إحصاء صدر عن المرصد الأورو- متوسطي بداية العام الحالي 2017، بأن 55? من سكان القطاع يعانون من الاكتئاب، وأن 50? من أطفاله بحاجة إلى دعم نفسي. كما أشارت وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» إلى أن نحو ثلث اللاجئين في غزة، والبالغ عددهم مليون و200 ألف نسمة، ظهرت لديهم أعراض اضطرابات نفسية واجتماعية. وكانت الصحيفة نفسها قد أشارت قبل أيام من ذلك، إلى «تضاعف حالات الطلاق في غزة في ظل فقدان الأمن السياسي والمجتمعي». ونقلت عن إحصائيات فلسطينية رسمية أن عدد حالات الطلاق، وفق أرقام القضاء الشرعي، بلغ 3188 حالة خلال العام الماضي، مقابل انخفاض حالات الزواج بنحو 140 عقداً عن العام السابق. ونجد معاناة مماثلة في مجال التعليم العام. فمع بداية أحداث الانقسام بين حركتي «فتح» و«حماس»، استنكف المئات من المدرسين عن عملهم خوفاً من تعرضهم لانقطاع رواتبهم، خاصة أنه صدر قرار رئاسي من السلطة الفلسطينية بمنع الدوام في الوزارات والمؤسسات الحكومية بعد سيطرة «حماس» عليها في يونيو 2007. ويُقدر عدد المدارس في قطاع غزة بـ714 مدرسة تتبع 392 منها الحكومة الفلسطينية، و267 لـ«الأونروا»، و55 للقطاع الخاص. ويبلغ عدد المعلمين قرابة 25 ألف معلم، أكثر من نصفهم يعمل في المدارس الحكومية، أما الطلاب فعددهم نحو 524 ألف طالب وطالبة. وذكرت صحيفة «الحياة» أنه خلال عشر سنوات من حكم «حماس» تفاقمت البطالة في القطاع، من 38? إلى 45?، وارتفعت نسبة الفقر من 45? إلى 65?، وانضمت حوالى 5000 عائلة جديدة إلى العائلات التي قُتل معيلها في الحروب الإسرائيلية الثلاث، إضافة إلى حوالى 3500 عائلة بات معيلها معوقاً. وهناك أزمات في التعليم والصحة. وفي الصيف الماضي كان التيار الكهربائي يعمل 4 ساعات يومياً ينوون تخفيضها إلى 3 ساعات. ويتسبب هذا الانخفاض في التيار في عدم تمكن مصلحة المياه والبلديات من معالجة مياه الصرف الصحي قبل أن يتم ضخها إلى البحر. فشل تجربة «حماس» في حكم غزة لن تفسره قسوة الإسرائيليين المتوقعة ضد حركة رفعت منذ البداية شعار إزالة الدولة العبرية، دون حكمة سياسية يفرضها الواقع وتحتمها المصلحة الفلسطينية. والتجربة وقد خابت تثبت، كما في السودان ومصر وإيران وغيرها، أنه من السهل وصول الإسلاميين إلى السلطة بين حين وآخر، ومن الصعب ألا يثيروا في النهاية غضب وسخط الناس ومعظم الأطراف.. حتى الذين نسوا أن يشكروهم علناً.