قد تبدو القوة مفهوماً مجرداً، لكن لمن هم أدرى بها، وتحديداً الأقوياء أنفسهم، يمكن أن يكون لتذبذبها أمر عميق التأثير. فالذين يتبوؤون مراكز القوة الضخمة هم أفضل من تُدرَك حدود فاعليتهم ومَن يشعر بالإحباط إزاء الفجوة بين القوة التي يتوقعون أن تخولها لهم مناصبهم والقوة التي يمتلكونها في الواقع. وفي كتابه الذي نعرضه هنا، وعنوانه «نهاية عصر القوة»، يقول رئيس التحرير السابق لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية ومؤلف عشرة كتب حول الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي والتنمية الاقتصادية، موسى نعيم، إنه واجه تلك القيود والتقلبات في مسيرته العملية، لأول مرة في فبراير 1989 حين عُين وزيراً للتنمية في حكومة بلاده فنزويلا التي كانت ديمقراطية في حينها، وكان في السادسة والثلاثين من عمره، لكن ما أن تولت الحكومة الجديدة مقاليد الأمور حتى واجهتها أعمال شغب واحتجاجات شلّت العاصمة كاركاس، وبات ينظر إلى البرنامج الإصلاحي للحكومة المنتخبة وصاحبة الأغلبية بصفته مصدراً للعنف في الشوارع وتزايد الفقر وتفاقم عدم المساواة! يقول نعيم: «كانت المشكلة تكمن في الفجوة الكبيرة بين تصوري لقوتي وحقيقة قوتي. فمن الناحية الظاهرية، وبصفتي أحد الوزراء الاقتصاديين الرئيسيين، كنت أمتلك قوة هائلة، لكن من الناحية العملية لم يكن لدي سوى قدرة محدودة على تنظيم الموارد وتعبئة الأفراد والأجهزة والمنظمات، وبشكل أعم لتحقيق ما نرغب فيه». وفي الكتاب يتحدث «نعيم» عن القوة كقدرة على توجيه الآخرين لفعل شي أو للتوقف عن فعله، وكيف أنها تشهد تحولا تاريخياً من شأنه تغيير العالم. فقد بدأت القوة تنتقل من العضلات إلى العقول، ومن الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، ومن الشركات العملاقة إلى الشركات الرشيقة الجديدة، ومن الدكتاتوريين الشموليين إلى الناس العاديين في ساحات المدن والفضاء السيبراني. وهكذا أصبح اللاعبون الكبار يواجهون تحدياً متزايداً من جانب لاعبين أحدث سناً وأصغر حجماً، مما جعل اللاعبين الكبار مقيدين أكثر من ذي قبل في الطرق التي يمكنهم أن يستخدموا بها قوتهم. بيد أن هذا لا يعني أن القوة قد اختفت أو أنه لا يوجد الآن أناس يمتلكون الكثير منها. فرئيس الولايات المتحدة الأميركية أو رئيس الصين، والبابا، والمدير التنفيذي لشركة «جي بي مورغان» أو لشركة «شل» النفطية، والمحرر التنفيذي لصحيفة «نيويورك تايمز»، ورئيس صندوق النقد الدولي.. ما زالوا يمتلكون قوة هائلة، لكن أقل ممن سبقوهم في المناصب ذاتها. بمعنى أن القوة لم تعد تؤمِّن لصاحبها المكانة نفسها التي كانت تؤمِّنها في الماضي. وكما يشرح الكتاب، فإن القوة من الناحية العملية يتم التعبير عنها من خلال أربعة وسائل أو قنوات مختلفة، هي العضلات والعرف والمكافأة وطريقة التقديم، لكنها عمليا تميل إلى الاختلاط والتمازج ونادراً ما تكون واضحة تماماً، وإن كانت كل منها تعمل بطريقة مختلفة. لكن ما الذي تغير في طريقة استخدام القوة ونمط توزعها؟ وكيف بدأ هذا التغير؟ يقر المؤلف بصعوبة تحديد اللحظة التي بدأ فيها تبعثر القوة واضمحلالها، أي بداية تراجع النموذج الفيبري (نسبة إلى عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر)، والأصعب هو تحديد الطريقة التي تم بها ذلك التبعثر والاضمحلال. لكنه يعتبر يوم 9 نوفمبر 1989 (تاريخ سقوط جدار برلين) لحظة يمكن البدء منها، فخروج نصف قارة من قبضة الاستبداد السوفييتي، وفتح الحدود والأسواق الجديدة، ونهاية الحرب الباردة وصراعها الأيديولوجي والوجودي.. كلها عوامل أدت إلى تقويض منطق دولة أمنية قومية واسعة، وما يدعمها من موارد اقتصادية وسياسية وثقافية. ثم بعد نحو عام من ذلك الحدث نجح «تِم بيرنرز لي»، عالم الحاسوب البريطاني في المنظمة الأوروبية للبحوث النووية على الحدود الفرنسية السويسرية، في إرسال أول اتصال بين بروتوكل نقل النص الفائق (HTTP) وخادم عبر الإنترنت، وبذلك نشأت الشبكة العنكبوتية العالمية، لتشتعل ثورة الاتصالات العالمية التي أثرت في كل مناحي حياتنا، وفي المقدمة منها مفهوم القوة وكيفية استخدامها وخريطة توزعها ونمط انتشارها. ويعتقد المؤلف أن ثلاث ثورات، هي ثورة الاتصالات (الإنترنت)، وثورة التنقل (نهاية عصر الجماهير الأسيرة)، وثورة العقليات (عدم التسليم بأي شيء بعد الآن)، أدت إلى سقوط الحواجز وإتاحة الفرصة أمام القوى الصغرى، والتي أصبحت تعمل -بجسارة غير مسبوقة- على الحد من الخيارات المتاحة للاعبين الكبار، بل كثيراً ما أجبرتهم على التنازل والتقهقر أحياناً، أو حتى فقدان القوة تماماً. ويتساءل نعيم في كتابه: لمن سيكون العالم؟ ويتوقف عند يوم 28 مارس 2012 حين أعلنت وزارة المالية الأسترالية أن إجمالي حجم اقتصادات الدول الأقل نمواً تجاوز حجم اقتصادات الدول الغنية مجتمعة. وهو الحدث الذي نظر إليه الصينيون باعتباره نهايةً لخلل استمر قرناً ونصف القرن، لكن في ظرف جيل واحد تحولت القوة العالمية على نحو جديد ومختلف. ويعتقد المؤلف أنه بمرور الوقت لن يكون هذا التحول مجرد تغير اقتصادي ومالي، بل سيكون كذلك تحولا سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً. محمد ولد المنى الكتاب: نهاية عصر القوة المؤلف: موسى نعيم الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2017