تشهد قاعات المركز الدولي للمؤتمرات بمدينة جينيف السويسرية خلال الأيام القليلة القادمة، وبالتحديد من 22 إلى 29 سبتمبر، مجموعة من المحاضرات والفعاليات الصحية الخاصة، تحت عنوان «أسبوع الزئبق». ويقام هذه الحدث تحت رعاية برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UN Environment Programme)، بعد مرور شهر تقريباً على بدء تنفيذ وتطبيق المعاهدة الدولية المعروفة بـ«اتفاقية ميناماتا للزئبق»، وبعد 4 سنوات من تبني واعتماد أفراد المجتمع الدولي لهذه المعاهدة المهمة، المتعلقة بحماية الصحة العامة للأفراد من خطر التسمم بالزئبق. ويعتبر الزئبق من العناصر الطبيعية الموجودة في الماء، والهواء، والتربة. ولذا بالضرورة، يتعرض جميع أفراد الجنس البشري باستمرار لمقدار ما من الزئبق خلال حياتهم، وإن كان في الغالبية العظمى منهم، لا يزيد هذا المقدار عن كميات ضئيلة، ضمن ما يعرف بـ«التعرّض المزمن»، أي التعرض لفترات طويلة لمستوى منخفض من الزئبق، سواء بشكل مستمر أو متقطع. إلا أنه بالنسبة للبعض، يأخذ هذا التعرض شكلاً حاداً، من خلال التعرض لتركيزات مرتفعة، خلال فترة زمنية قصيرة - غالباً ما تكون يوماً أو أقل- كما هو الحال مثلاً بعد الحوادث الصناعية، والتي تؤدي إلى تلوث البيئة المحيطة بمكان الحادث بكميات كبيرة من الزئبق. وتصنف منظمة الصحة العالمية الزئبق، ضمن أهم عشر مواد كيميائية، تمثل مصدراً لقلق عميق على الصحة العامة للأفراد والمجتمعات، كون التعرض للزئبق، حتى ولو بكميات ضئيلة جداً، يمكنه أن يتسبب في مشاكل صحية خطيرة، خصوصاً للأجنة في أرحام أمهاتهم، وللأطفال خلال السنوات الأولى من عمرهم. وتنتج هذه المشاكل في غالبيتها من التأثير السمي للزئبق على الجهاز العصبي، والجهاز الهضمي، وجهاز المناعة، والرئتين، والكليتين، والجلد، والعينين. وحالياً يُشكل استهلاك المأكولات البحرية، أهم مصدر للتعرض للزئبق، وإن كان يمكن أيضاً للنباتات ولحوم الماشية أن تحتوي على كميات من الزئبق. ويعتبر الأشخاص والمجتمعات التي يحتوي غذاؤها اليومي الرئيسي على مستويات مرتفعة نسبياً من الزئبق، مثل المجتمعات الساحلية التي تعتمد بشكل أساسي على صيد الأسماك والمأكولات البحرية، من أكثر الفئات تعرضاً للتسمم بالزئبق، فمثلاً أظهرت الدراسات في البرازيل، وكندا، والصين، وكولومبيا، أن من بين كل ألف طفل يعيشون في المجتمعات التي تتميز باستهلاك مرتفع من الأسماك، يعاني ما بين 1.5 إلى 17 طفلاً من ضعف إدراكي (تخلف عقلي). وبخلاف المصادر الغذائية، يوجد الزئبق في حياتنا اليومية في أشكال أخرى من خلال استخدامات مختلفة، غالبيتها طبية. أول وأهم تلك الاستخدامات، وجود أحد مركبات الزئبق سابقاً ضمن التطعيمات الطبية، وهو الاستخدام الذي توقف منذ عام 1999 بناء على قرار من مركز الوقاية والتحكم في الأمراض في الولايات المتحدة، وتوصية الجمعية الأميركية لطب الأطفال. وأتى هذا القرار وهذه التوصية بناء على ظهور شكوك في وجود علاقة بين مركب الزئبق المستخدم في التطعيمات الطبية وبين ازدياد معدلات إصابة الأطفال بمرض التوحد. ورغم عدم وجود أدلة كافية على هذه العلاقة، فإن مركز التحكم في الأمراض والوقاية اعتمد مبدأ الحرص والحذر المفرط، وخصوصاً أنه لا يوجد ضرر من اتخاذ الحيطة الزائدة ومنع استخدام هذا المركب في التطعيمات، حتى ولو ثبت لاحقاً بشكل قطعي أنه لا ضرر منه، وأن لا علاقة له بالتوحد أو غيره، وبالفعل في عام 2004، رفض تقرير لجنة متخصصة من «معهد الطب» في الولايات المتحدة، وجود أي علاقة عرضية بين مركب الزئبق المستخدم في التطعيمات الطبية وبين التوحد، بل المفارقة أن معدلات الإصابة بالتوحد ظلت في تزايد مستمر، حتى بعد منع استخدام مركب الزئبق محل الشكوك. وجدير بالذكر أيضاً هنا، أن التوصية الطبية تنص على أن هناك فوائد ومخاطر لاستهلاك الأسماك والمأكولات البحرية، إلا أن تناول الأسماك يحقق فوائد صحية بقدر أكبر من أي ضرر محتمل. وتعتمد هذه التوصية على حقيقة أن محتوى الأسماك من الأحماض الدهنية غير المشبعة «أوميجا 3» يحقق فوائد صحية جمة، تفوق ما قد يتسبب فيه محتواها من الزئبق من أي ضرر، وإن كان يوصى بالحد من استهلاك الأسماك للنساء الحوامل، أو من يخططن للحمل خلال فترة زمنية قصيرة. وبوجه عام يوصى أيضاً بقصر استهلاك الأسماك المفترسة كبيرة الحجم كسمكة القرش، على بضع مرات فقط في الشهر، أما الأسماك المفترسة الأصغر حجماً مثل التونة المعلبة والسلمون المرقط (Trout) فيمكن تناولها عدة مرات في الأسبوع الواحد، أما أنواع السلمون الأخرى فيمكن تناولها من دون حد أقصى.