المُشْكلات الدَّاخلية التي تُواجهها الدول العربية في المرحلة الراهنة، تتطلب البحث عن إجابات عمليَّة لأسئلة تُمثِّل إشكاليَّات مصيريَّة، منها: أَيَحِقُّ لنا قراءة النصوص الأدبية (الرواية، القصة والقصة القصيرة، الشعر بكل أنواعه) من منظور سياسي؟.. لا شك أن كثيراً من المبدعين يرى في ذلك ظُلْماً وإجحافاً في حق الإبداع والمبدعين، لأن السّاسة يُنصِّبُون أنفسهم في الغالب حكّاماً على النص، تماماً مثل ما يفعل أولئك الذين اتخذوا من مواقعهم الدينية مرجعيات، وانتهى بهم الأمر إلى إصدار أحكام، أغلبها ظالمة، وتبحث ما في الصدور، وتعتدي على العلاقة بين الإنسان وخالقه. هناك من يخالف الرأي السابق، وقد أدّعي أني واحد منهم، ويذهب إلى القول: قراءة الأدب سياسياً ليست ترفاً فكرياً، أو مطاردة للمبدعين لإخضاعهم لطبيعة السلطة القائمة في بلدانهم، ولكنها بوجه خاص ضرورة لفهم المجتمع في تطوره أو تخلفه، تغيره سلباً أو إيجاباً، سواء تعلّق الأمر بمتطلبات الحياة بكل ما فيها، أو بوجود وبقاء الدولة الوطنية، كياناً وعلاقات بشرية مترابطة، خاصة ونحن نعيش مرحلة، الشك في كل الأوقات، وتذكرنا حركة الزمان ليلاً ونهاراً بمصائبنا وأزماتنا محلياً وقومياً.. مرحلة هي أقرب من ناحية الوصف إلى بيت شعري للخنساء، جاء في مطلع قصيدة ترثي فيها أخاها صخراً، حيث تقول: يُؤرّقُني التّذَكّرُ حينَ أُمْسي فأُصْبحُ قد بُليتُ بفرْطِ نُكْسِ وأمامي اليوم رواية حملت عنوان «حافة الكوثر» للشاعر والصحفي المصري علي عطا(الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بداية العام الجاري 2017)، يروي فيها تجربة شخص مريض نفسي يدخل المصحة (اسمها الكوثر) للعلاج ثلاث مرات، وفيها تظهر قضيتان أساسيتان، الأولى خاصة: حيث نجد بطل الرواية حسين يتجاوز تمثيله لنفسه إلى النيابة عن الآخرين من أبسط رجل في الشارع إلى أعلى هرم السلطة، القضية الثانية: القول للآخرين الفاعلين على المستوى الدولي هنا تأويل للنص أنكم ترون أنفسكم عند إصدار قرارتكم أصحاء، ولكن أنتم في حقيقة الأمر مرض مثلنا وربما أكثر. من خلال وعي ظاهر ومواقف مستترة، يحاول الكاتب تقديم صورة مصغرة لفضاء الحياة الاجتماعية، حيث العلاج والعيش لسنوات بمودة وتراحم وعبور وعودة إلى حالات نفسية صحية ومرضية، نماذجها عامة الناس وكثير من المثقفين، من مراحل عمرية مختلفة، ومن مستويات اجتماعية متناقضة، أبناء أزمنة سياسية ثابتة ومتغيرة، حاملين لهموم الحياة، ومُحمّلين بأوزار الهزائم والانكسارات والتراجع. ليس مُهّماً إن كان اسم المصحة النفسية واقعاً، أو خيالاً، أو أنه اشتق من اسم الكوثر المذكور في القرآن الكريم، كما ذهب إلى ذلك كتاب وإعلاميون، ولكن المهم في نظري أن الزمن الحالي لأمتنا يبحث عن مساكن طيبة، حتى لو كانت مصحات نفسية، وإذا حقّ لنا أن نستعمل المجاز، فقد نذهب بعيدا في التحليل لدرجة يكمن القول إن عطا واجه الإرهاب العام عبر روايته ليبلغنا أن الأوطان يُنازعنا حبها ليس في الخلد، كما ذكر أمير الشعراء أحمد شوقي، ولكن فيها ومن خلالها، وعبر جميع مؤسساتها حتى لو كانت مصحَّات نفسية.. المهم أن تظل الأوطان موجودة داخلنا، لدرجة أننا قد نَهْجُر الذات، ولكن نجد أنفسنا عاجزين عن فراق الأوطان حتى لو أُجبرنا على ذلك لأي سبب من الأسباب، وعلاجنا لحال الهجرة صوب الخارج، أو الاغتراب في الداخل هو الكتابة، وهكذا فعل علي عطا، ومهما ستكون القراءة السياسية فهي ستظل ردَّ فعل، والإبداع هو الفعل، لذلك هو أطول عمراً، وأكثر تأثيراً.