في المقالة المنشورة في صفحات «وجهات نظر» يوم الأربعاء 16 أغسطس الماضي، تحت عنوان «هل يصمد الاقتصاد القطري؟»، توقع كاتب السطور أن تضطر السلطات في الدوحة إلى تسييل أصول سيادية موجودة في الخارج، وجلبها كودائع في البنوك المحلية عندما تزداد معدلات سحب الودائع منها، وتتجه بعض المؤسسات الدولية إلى تجفيف الودائع قصيرة الأجل فيها. ورغم عدم إمكان الحصول على أرقام دقيقة تماماً بسبب غياب الشفافية في الهيئات المصرفية والنقدية والمالية في الدوحة، تدل حالة الاقتصاد القطري في مجمله على أن الودائع الأجنبية في البنوك تتناقص بأسرع مما كان متوقعاً نتيجةَ ازدياد القلق من تفاقم الأزمة. والمرجح أن يؤدي استمرار المقاطعة إلى ازدياد هذا القلق. لذلك يصبح الاتجاه إلى تسييل أصول سيادية موجودة في الخارج منطقياً، ولا بديل عنه مادامت الأزمة مستمرة. وقد بدأت بوادر هذا التسييل، أو خطواته الأولى، بالفعل، وفق ما يمكن استنتاجه من البيانات الخاصة بحصة قطر في بنك كريدي سويس المعروف. تفيد هذه البيانات أن حصة قطر انخفضت مؤخراً من نحو 18? إلى 15.91?. وتملك شركة قطر القابضة التابعة لجهاز الاستثمار القطري هذه الحصة التي تنقسم إلى شقين. أحدهما في صورة أسهم، أي حصة مباشرة بنسبة 4.94?، والثاني في صورة حقوق شراء بنسبة 10.97?. كما أظهرت بيانات بنك لوكسمبورج الدولي أن مجموعة «بريزيشن كابيتال»، التي تُعد الهيئة الاستثمارية الأساسية المفضلة لعدد يُعتد به من أفراد الأسرة المالكة القطرية، قامت ببيع 90? من أسهم هذا البنك لشركة «ليجند هولينجر» الصينية التي تملك مجموعة «لينوفو» المنتجة لأجهزة الكومبيوتر المعروفة بهذا الاسم، وذلك في صفقة قيمتها 1.48 مليار يورو. وربما لا تكون هذه هي كل الأصول السيادية التي بدأ تسييلها في الأسابيع الأخيرة، بالتوازي مع تبني عدد متزايد من الخبراء الاقتصاديين والماليين في العالم نظرة سلبية ليس بشأن الأسهم القطرية فقط، ولكن بخصوص أداء النظام الاقتصادي القطري عموماً. فقد تزامن البدء في تسييل أصول سيادية مع ضربة جديدة تلقاها النظام المصرفي عندما أعلنت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني خفض تصنيف قطر ضمن تقييم سلبي أوسع نطاقاً يتضمن توقع تباطؤ النمو الاقتصادي. وانضمت «فيتش» إلى وكالة «ستاندرد أند بورد» التي سبقت إلى خفض التصنيف الائتماني للديون القطرية طويلة الأجل، وكذلك وكالة «موديز» التي تبنت تقييماً أكثر سلبية ونبهت إلى تداعيات ارتفاع تكلفة التمويل بالنسبة للبنوك القطرية في أسواق الدين العالمية. وجاء تقييم «فيتش» المشار إليه بعد أيام على توقع وكالة «بلومبيرج» لجوء البنوك القطرية إلى رفع تكلفة الاقتراض، وتقديم عائد أكبر أو أكثر جاذبية، إذا أرادت تقليل آثار المقاطعة التي أدت إلى ارتفاع معدلات المخاطرة السياسية بالنسبة للمستثمرين، وانخفاض الودائع الأجنبية إلى أدنى مستوياتها خلال أكثر من عامين، واستمرار تدفقات الأموال إلى الخارج. ومن الطبيعي أن تنعكس هذه التطورات على هيكل الاقتصاد القطري، الذي يُعد أحد أكثر الاقتصادات في العالم اعتماداً على الخارج، لذا أصبح مؤكداً أن يحدث انخفاض في معدل النمو الاقتصادي للعام الجاري (2017)، وإن تباينت التوقعات بشأن معدلات هذا الانخفاض. فمثلاً توقع صندوق النقد الدولي تراجع النمو في القطاع غير النفطي في قطر إلى نحو 4? في العام الحالي، بينما توقع تقرير وكالة «فيتش» الذي سبقت الإشارة إليه أن ينخفض هذا النمو إلى نحو 2? هذا العام، ثم إلى 1.3? في العام المقبل. كما توقعت مجموعة «أكسفورد إيكونوميكس»، التابعة لكلية الأعمال في جامعة أكسفورد، أن يصل التراجع في العام الحالي إلى 1.4?. ويعود التفاوت في هذه التوقعات إلى تعدد مناهج الجهات التي تصدرها، وتباين في بعض المعلومات التي تعتمد عليها، وبالتالي اختلاف تقدير كل منها للعوامل المؤثرة في النمو الاقتصادي، خاصة الاستثمار الذي يُعد العامل الأكثر تأثيراً، والذي يتأثر بدوره بمُحدِّدات شتى تلعب المتغيرات السياسية دوراً كبيراً فيها. لكن القدر المتيقن، رغم هذا التفاوت، هو أن الاقتصاد القطري بدأ رحلة التراجع التي ستقود تدريجياً إلى تدهور تتعذر معالجته من دون حل الأزمة السياسية، رغم العمق المالي الذي يتمتع به هذا الاقتصاد.