الجزم أن «داعش» سينتهي ويصبح عاجلاً أثراً بعد عين كما يأمل العالم، أمر صعب، فرغم الخسائر التي ألحقها به التحالف الدولي في كلٍّ من العراق وسوريا، فما زالت له جيوب في كلا البلدين ما يجعل فلولهُ الهاربة من ساحات القتال تعشش فيها، والجيوب إذا ما أُهملت معالجتها السريعة، فإنها ستكبر وتستجمع قوتها لتعيد جهودنا إلى المربع الأول. من كان يتصوّر أن أفغانستان الممزقة سنين طويلة، تصبح اليوم أحد الملاذات الآمنة لفلول «داعش»، الذين ما إن وصلوا إلى هناك حتى دخلوا في معركة (كسر عظم) مع «طالبان» وأخضعوها لتعمل بإمرتهم. وإذا أضفنا إلى ذلك كله وجود «داعش» في شكل (ذئاب منفردة) في أوروبا تحديداً، حيث إن (خمسين بالمئة من المقاتلين الدواعش العائدين إلى بلدانهم الأوروبية يختفون في بريطانيا وحدها) حسبما صرح بذلك المسؤولون، فإن الأجزاء المتناثرة للصورة ستتضح أكثر لتضع العالم كله بشتى أديانه وثقافاته، أمام أهمية الالتزام بمقاومة الإرهاب وهزيمته في شكل منظم وجاد لا تهاون فيه. يبدو أن الأوروبيين ليسوا وحدهم من لم يفهم أهداف هذا التنظيم الشيطاني ورسائله، بل انضم لهم العرب الذين حاروا في البداية في تحديد حجم «داعش» ومساعيه الدموية، التي طالتهم مباشرة في مقتل. حتى الساعة ما استطاع لا العرب ولا الأوروبيين الإجابة عن سؤال: من أي قمم خرج تنظيم (دولة الخلافة) هكذا فجأة ليغدو وحشاً يقوّض أمن العالم واستقراره؟ هل التنظيم ولد من رحم جماعة الزرقاوي سيئ الذكر في العراق، أم أنه امتداد لتنظيم «القاعدة» المتجدد في الظواهري (الإخوانجي) أساساً؟ هل هنالك جهات بعينها ولأسبابها البراغماتية، استبذرته ورعت عوده ليشتد ثم أطلقته ليحرق الأخضر واليابس في منطقتنا العربية أولاً؟ كل هذه الأسئلة سبق طرح بعضها لكن جلّها بقي من دون إجابة، ربما لا أحد يمتلك الإجابة، أو ربما من يمتلكها لا يريدنا أن نعرفها لحاجةٍ في نفس يعقوب. كيف ولماذا تظهر علينا فجأة التنظيمات الإرهابية التي تختلف في المسميات وتلتقي في الأهداف؟ ما زال المرء يتمنى قراءة بحث جاد يتناول هذه الظاهرة الخطيرة ويحدد أسبابها. تلك حقيقة مرّة، رغم أننا كثيراً ما نعوّل على مراكز البحوث والدراسات العربية الجادة وهي قليلة للأسف. لا يُستبعد أن يكون الفقر من أسباب الإرهاب المستشري في العالم، أو الأميّة وعدم التعليم، أو الفهم الخاطئ للأديان، أو الشعور بالظلم. ما يعتبر من مسببات الإرهاب أيضاً ويمكن إضافته، وغالباً ما يندرج تحت (البرغماتية) التي تشرّع تحقيق الأهداف الموضوعة بأية طريقة أو وسيلة حتى وإن كانت الدساتير لا تقرّها. يحدث هذا كثيراً في عالمنا اليوم. وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون - عملت في عهد الرئيس باراك أوباما - وفي محاضرة منقولة عبر قنوات التلفزة الأميركية قالت: الناس الذين نقاتلهم اليوم، نحن الذين أوجدناهم. قد يكون من أسباب ما قالته هيلاري، هو تمدد السوفييت في آسيا وأفغانستان تحديداً. إن نماذج الطاغية المتجبّر كثيرة في العالم فهو كالديكتاتور العسكري، الأول يحكم الناس عبر إمبراطورياته المالية والعقارية ويخاطبهم باسم الدين، والثاني يحكم الناس في ما يشبه المعسكرات بالحديد النار ويخاطبهم باسم الثورة والتغيير، وبين هذا وذاك - بين الدين وبين الثورة - يموت البشر ويتقهقر العالم ليخسر منجزاته الإنسانية والحضارية.