في قصر «أيستانا»، وبمشاركة رئيس الوزراء «لي شيان لون» ورئيس المحكمة العليا «سونداريز مينون» ووزراء الحكومة وممثلي القضاء وغيرهم من كبار المسؤولين.. أدت حليمة يعقوب اليمين الدستورية، الخميس الماضي، لتصبح أول امرأة تترأس جمهورية سنغافورة وثاني شخص من أقلية الملايو المسلمة يشغل هذا المنصب، وقالت حليمة في خطاب تنصيبها: «اليوم أريد أن أؤكد لجميع السنغافوريين أنني بصفتي رئيسةً للبلاد، سأخدم كل واحد منكم بغض النظر عن العرق أو اللغة أو الدين.. وإني أفكر في نوع العمل الذي يجب القيام به وأتطلع لبدايته»، ثم سرعان ما تقاطرت الرسائل من قادة بلدان العالم، مهنئةً بتنصيب الرئيسة الجديدة لسنغافورة. وحليمة يعقوب سياسية مسلمة ومحجبة من أقلية الملايو التي قررت سنغافورة منحها منصب الرئاسة هذه المرة، بغية تعزيز الشعور بالتعدد الثقافي والعرقي في البلاد. وقد ولدت حليمة يعقوب في إحدى الضواحي الفقيرة للعاصمة سنغافورة عام 1954، حين كانت هذه الجزيرة الواقعة بجنوب شرق آسيا تحت حكم الاستعمار البريطاني، مثلها مثل جزيرة ملايو المجاورة وماليزيا الواقعة خلف مضيق «جوهر»، قبل أن تعلن سنغافورة استقلالها من جانب واحد عام 1963 والانضمام إلى الاتحاد الفيدرالي الماليزي في العام ذاته، لكن الاتحاد لم يعمر أكثر من عامين حيث تم إعلان جمهورية سنغافورة المستقلة في 9 أغسطس 1965، وأصبح «لي كوان لي» أول رئيس وزراء للجمهورية الوليدة، ويوسف إسحق (من أقلية الملايو المسلمة) أول رئيس لها، وها هي حليمة يعقوب أصبحت الثانية بعده ضمن ذات الأقلية. ومع بدايات التحول الذي عرفته سنغافورة في ظل حكم «لي»، من بلد يسكنه الفقر والأمية والمستنقعات والأمراض، إلى واحد من نمور جنوب شرق آسيا، ترعرعت حليمة يعقوب في حضن أمها المالوية الكادحة بعد أن توفي عنها والدها الحارس ذو الأصول الهنية وهي الثامنة، لكنها تلقت تعليمها في مدرسة «تانجونغ كاتونغ» الصينية للبنات، ثم التحقت بجامعة سنغافورة الوطنية حيث تخرجت متفوقة بشهادة البكالوريوس في القانون عام 1978. وفي الجامعة تعرفت حليمة علي محمد عبدالله الحبشي، ليتزوجا في عام 1980 وسط ظروف مادية غير مثالية، حيث اضطرا للسكن في غرفة واحدة، قبل الإقامة لبعض الوقت مع أقارب لهما، وإن استطاعا أخيراً شراء بيت كبير في الضاحية الشرقية للعاصمة، بعد أن أصبح الحبشي (خريج كلية العلوم) أحد متوسطي رجال الأعمال الناجحين في الجزيرة. وقالت حليمة عن زوجها إنه ميال للغناء بلغة الملاوي، وذكرت في صفحتها على الفيسبوك أنه يمني الأصل وأن جذوره تعود إلى محافظة حضرموت، كما تحدثت وسائل إعلام آسيوية مؤخراً عمن سمتهم «عرب سنغافورة»، وقالت إن من أقرباء زوج الرئيسة الجديدة رجل تقي وشهير في تاريخ سنغافورة، يدعى «سيد حبيب نوح بن محمد الحبشي»، المتوفى عام 1866، والمنتسب إلى آل البيت الشرفاء، ونشرت هذه الوسائل الإعلامية صورة صريحة للدلالة على أهميته الدينية. وإلى جانب الاهتمام بزوجها وأسرتها المكونة من خمسة أطفال، واصلت حليمة يعقوب دورها في العمل العمومي منذ التحاقها بنقابة المحامين كموظفة عام 1981، حيث أصبحت مديرة الخدمات القانونية فيها عام 1992، كما عملت في المؤتمر الوطني لاتحاد النقابات كنائب لأمينه العام، ثم مديرة لإدارة الخدمات القانونية، ومديرة أمانة تنمية المرأة، وشغلت منصب الأمين التنفيذي لعمال «المتحدة للإلكترونيات والصناعات الكهربائية».. قبل تعيينها مديرة لمعهد سنغافورة للدراسات العمالية في عام 1999. وفي العام التالي تم انتخابها نائبة لرئيس لجنة المعايير التابعة لمؤتمر العمل الدولي في جنيف، وكانت المتحدث باسم العمال أمام لجنة القانون الدولي في مؤتمري 2003 و2004. واستأنفت حليمة دراستها في عام 2001 وأكملت درجة الماجستير في القانون من جامعة سنغافورة. وفي منتصف التسعينيات انضمت إلى «حزب العمل الشعبي» الحاكم في سنغافورة منذ تأسيسه عام 1959، وكان أول ظهور سياسي لها حين ترشحت على قوائم الحزب للانتخابات التشريعية عام 2001، حيث فازت بمقعد عن دائرة منطقة غرب سنغافورة، ثم دخلت البرلمان مجدداً عقب انتخابات 2011، لكن تم تعيينها في العام ذاتها وزيرة دولة بوزارة التنمية المجتمعية والشباب والرياضة، ثم بموجب تعديل وزاري جرى في نوفمبر 2012 أصبحت وزيرة دولة بوزارة التنمية الاجتماعية والأسرية. وفي نقلة أخرى ضِمْن حياتها السياسية، تم اختيار حليمة يعقوب في يناير 2015 لعضوية اللجنة المركزية التنفيذية لحزب العمل الشعبي، وهي أعلى هيئة لصنع القرار في الحزب، لكن قبل ذلك تم ترشيحها لرئاسة البرلمان خلفاً لرئيسه «مايكل بالمر» الذي استقال على خلفية ملف فضائحي، فانتخبها النواب يوم 14 يناير 2013 لتصبح أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ سنغافورة. لكن في 6 أغسطس الماضي أعلنت حليمة استقالتها من عضوية الحزب الحاكم ومن منصبها كرئيس للبرلمان، وكان من الواضح أنها مرشحة الحزب لانتخابات الرئاسة المنتظرة في حينه، خاصة بعد أن أيدها رئيس الوزراء «لي هسين لونغ»، ثم أطلقت حملتها الانتخابية يوم الـ25 من أغسطس المنصرم تحت شعار «نفعل الخير معاً». وقد ترشح إلى جانبها منافسان آخران من أقلية الملايو المسلمة ذاتها، هما «فريد خان» و«صالح ماريكان»، لكن سرعان ما تم استبعادهما بموجب الدستور الذي يشترط أن يكون المرشح للرئاسة قد شغل منصباً عاماً لمدة 3 سنوات على الأقل، وهو شرط ينطبق على حليمة ولا ينطبق على أي من منافسيها.. أو أن يكون قد شغل رئاسة شركة رأسمالها المدفوع لا يقل عن 370 مليون دولار أميركي، وهو أيضاً ما لا ينطبق على خان وماريكان اللذين تم إخطارهما بالفشل في التأهل. لذلك أعلنت إدارة الانتخابات، الأربعاء الماضي، إلغاء الاقتراع الرئاسي الذي كان مقرراً يوم 23 سبتمبر الجاري، لوجود مرشح واحد فقط، ومن ثم فوز حليمة يعقوب بالتزكية المطلقة، لتصبح ثامن رئيس للبلاد وثاني رئيس لها من عرقية الملايو التي لا تزيد نسبتها على 14%، بينما يمثل البوذيون 33% والمسيحيون 18%. وقد وجهت انتقادات لآلية وصول حليمة يعقوب إلى منصب الرئاسة، وذلك لغياب المنافسة ومنع المرشحين المنافسين، وكونها في واقع الأمر مرشحة الحكومة وحزبها الحاكم، خلافاً للقانون والدستور، بيد أن حليمة يعقوب التي ستتولى الرئاسة لولاية من 6 سنوات، لن تكون لها سوى سلطات محدودة بموجب الدستور السنغافوري الذي يتبنى نظام الحكم البرلماني، وإن كان يمنح رئيس الجمهورية حق النقض ضد القرارات المتصلة بتعيين بعض الموظفين الحكوميين في الجهازين الأمني والقضائي. ولعل سنغافورة التي تعد الآن إحدى أغنى دول جنوب شرق آسيا وأكثرها استقراراً من الناحية السياسية، اعتادت منذ استقلالها على هذا النظام الذي تأسس على يدي «لي»، رئيس وزرائها الراحل ومهندس نهضتها ووالد «لي» رئيس وزرائها الحالي، وهو التعود الذي أصبح واحدة من حقائق الاجتماع السياسي السنغافوري الراسخ في الواقع والمستقر في خلد كثير من موظفي القطاع العام وساسة المدرسة الواقعية هناك، ومنهم الرئيسة الجديدة حليمة يعقوب! محمد ولد المنى