شغل بنيامين نتنياهو، المعروف بـ«بيبي»، طوال نصف فترة العقدين الماضيين، منصب رئيس وزراء إسرائيل، وأيّاً كان مصيره في ضوء التحقيقات الجنائية الدائرة التي يواجهها في الوقت الراهن، فقد كان لأفعاله بالتأكيد تأثير كبير على إسرائيل وفلسطين وربما المنطقة بأسرها. وهناك من يتصور أن نتنياهو ليست لديه معتقدات أساسية، بخلاف رغبته في الاحتفاظ بالسلطة، ولكن على رغم مناوراته ومراوغاته، فإن الحقيقة هي أن هناك معتقدات أساسية وجّهت عمله وحياته المهنية. وبعد وقت قصير من انتخابه للمرة الأولى كرئيس للوزراء، وقبل أول خطاب له أمام الكونجرس الأميركي، كتب فريق من «المحافظين الجدد»، الذين ينتمون إلى حقبة «ريجان»، وانتهى المآل بكثير منهم في مناصب رفعية بإدارة جورج بوش الابن، ورقة بحثية لنتنياهو لتوجيه تصريحاته أمام الكونجرس والجماهير الأميركية. ولاقت تلك الورقة هوىً في نفس نتنياهو وكتاباته الخاصة، وأُطلق عليها اسم «الاستراحة النظيفة». ولأنه كان بالفعل منحازاً لتلك الرؤى، شدّد على العناصر الرئيسة في تلك الورقة ومقترحاتها السياسية أثناء ظهوره المتكرر في واشنطن. وقد اعتبر نتنياهو الورقة بمثابة خريطة طريق للعلاقات مع الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط. وقد كانت العناصر الأساسية في تلك الورقة هي: - تدمير اتفاق أوسلو، ورفض «صيغة الأرض مقابل السلام»، وإعادة تأكيد المزاعم الإسرائيلية في الأرض، وإضعاف قدرة السلطة الفلسطينية على الحكم، وتشويه صورتها في الولايات المتحدة لتقويض موقفها. - تأمين الحدود الشمالية لإسرائيل، في مواجهة إيران، وتعزيز الصراع الداخلي في لبنان، وزعزعة استقرار سوريا. - تعزيز العلاقات مع «الجمهوريين» الأميركيين، واقتراح زيادة المساعدات للجيش الإسرائيلي، والترويج للفكرة التي تعود إلى عهد «ريجان» ببناء «نظام دفاع صاروخي»، وهي فكرة أيدها «الحزب الجمهوري». - ومواجهة العراق والإطاحة بنظام صدام حسين. وعلى مدار العقدين الماضيين، سعى نتنياهو وحلفاؤه الأميركيون، داخل وخارج الإدارة، إلى تحقيق تلك الأهداف. وقد نجحوا في مسعاهم إلى حد كبير. ولم يكن التحالف غير المقدّس بين «المحافظين الجدد» الأميركيين ونتنياهو من قبيل المصادفة، فلطالما كانوا شركاء. وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي، دعا نتنياهو كثيراً من قيادات المحافظين الجدد لعقد قمة في معهد «جوناثان» في إسرائيل، وقد أُطلق على ذلك الحدث «ميلاد حركة المحافظين الجدد الأميركية». وأيديولوجية تلك الحركة كانت موالاة إسرائيل ومعاداة العرب، وبالطبع كل ما يمت إلى الفلسطينيين بصلة، إلى جانب عداء الاتحاد السوفييتي السابق. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، وتوقيع اتفاق أوسلو، وانتخاب بيل كلينتون، تغير مجال تركيز «المحافظين الجدد» ونتنياهو. ونظراً لاعتباره «الجمهوريين» الأميركيين حلفاء في محاولات تقويض عملية السلام، أسّس حزب «الليكود»، بقيادة نتنياهو مركزاً لتقديم «رؤوس الأقلام» لخطابات الأعضاء «الجمهوريين» أمام الكونجرس الأميركي. وكان هدفه هو جعل «الجمهوريين» شركاء في معركته ضد إدارة كلينتون وحزب «العمل»، الذي صدّق على عملية السلام. ومع استحواذ «الجمهوريين» على الكونجرس في 1995، وانتخاب نتنياهو في 1996، تم تمهيد الأجواء لتدمير اتفاق أوسلو. ولم تكن الأهداف التي وضعتها ورقة «الاستراحة النظيفة» تنبئية بقدر ما كانت خريطة طريق وضع «المحافظون الجدد» ونتنياهو من خلالها خططاً لشراكة إسرائيلية أميركية جديدة، من شأنها زعزعة استقرار العالم العربي، والقضاء على الطموحات الفلسطينية التي ترنو إلى الاستقلال. ومع انتخاب دونالد ترامب وسيطرة «الجمهوريين» على الكونجرس، يشعر نتنياهو بمزيد من الراحة، وحلفاؤه في الكونجرس يدفعون أجندته بقوة، وقوانينهم مصممة: لمعاقبة السلطة الفلسطينية، وقطع التمويل عن «أونروا»، وتجريم «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات»، والاعتراف بسيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. ويمكن لنتنياهو والليكود و«المحافظين الجدد» أن يزعموا بحق أن رؤيتهم التي توقعوها للشرق الأوسط في ورقة «الاستراحة النظيفة» قد تحققت. ولكن في الواقع، ما تسببوا فيه هو فوضى لا يمكن استمرارها، إذ تضمنت إضعاف السلطة الفلسطينية، التي حيل بينها وبين القدرة على الحكم، مع سيطرة «حماس» على الكارثة الإنسانية في غزة، والفوضى في العراق، وتقوية إيران، والتهديدات الإرهابية التي تواجهها دول كثيرة. ذلك الدمار وزعزعة الاستقرار هو ما جنته يدا «بيبي»، وذلك هو حصاده وإرثه في النهاية.