منذ تعرض الأراضي الفرنسية لهجمات إرهابية متلاحقة، خلال العامين الماضيين، بات المجتمع المسلم الفرنسي بمعنى ما في عين العاصفة الإعلامية، واتجهت أنظار كثيرين إليه لقراءة موقفه من كل هذا الاستهداف الأعمى العنيف لبلاده ومواطنيه، وقد أشيع في هذا الصدد أحياناً الكثير من الصور النمطية والمغالطات المتحاملة في بعض وسائل إعلام اليمين الفرنسي ضد المسلمين، بزعم سلبيتهم ووقوفهم متفرجين، أو حتى تواطئهم، وعدم اتخاذهم الموقف الوطني اللازم الحاسم المفترض في مثل هذه الأحوال. ولكن خارج اجترار مغالطات الإعلام وصوره النمطية، قليلة هي الكتب والدراسات المتجهة التي حاولت فعلاً تقديم موقف مسلمي فرنسا من التطرف والإرهاب بطريقة علمية، وبناء على مقاربات سوسيولوجية، مبنية على مؤشرات لوحظت بصفة محققة، وقواعد بيانات سجلت بأرقام موثقة مدققة. وضمن هذا النوع من القراءات السوسيولوجية يأتي كتاب صدر هذه الأيام بعنوان: «مسلمو فرنسا، الاختبار الكبير في مواجهة الإرهاب» وهو عمل اشترك في تأليفه ثلاثة باحثين هم كاهنة إسماعيل وفينسان غيسير وأميرو مورينجيو- بيريا، وهم يتميزون جميعاً بكونهم متخصصين في شؤون الإسلام في فرنسا، فضلاً عن قضايا مشكلات الضاحية والاندماج في السياق الفرنسي، وقضايا الهجرة، والشؤون العربية، ولهم مؤلفات سابقة كثيرة في هذه المجالات. وفي هذا الكتاب الواقع في 287 صفحة يقدم المؤلفون ما يعتبرونه أول دراسة سوسيولوجية واسعة لمواقف المسلمين الفرنسيين من الإرهاب، مستندين في ذلك إلى قرابة أربعين مقابلة أجريت مع مهتمين ومعنيين بقضايا الإسلام والتعددية الدينية في فرنسا والعلمانية، وكذلك رصد المواقف المعلنة من طرف الجمعيات الفرنسية المسلمة، وكذلك في مجموعات وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً. ولعل أول ما يكشفه هذا الكتاب هو الطابع المركب، أو بعبارة أخرى المعقد لمواقف مسلمي فرنسا أنفسهم تجاه قضايا التطرف والإرهاب، فليس من المنطقي، ولا العلمي أصلاً النظر إلى مجتمع كامل مكون من عدة ملايين على أن له موقفاً واحداً، فشدة الحساسية والحزم والشجاعة في مواجهة العنف والتطرف يختلف من شخص لآخر، ومن شريحة لأخرى، بطبيعة الحال، وبالتالي فإن في صفوف مسلمي فرنسا تيارات وتوجهات مختلفة، وإن كانت الغالبية الساحقة منهم هي الشريحة المتدينة تديناً وسطياً، والرافضة لكل صور التطرف والعنف، والمستعدة أيضاً في النهاية للدفاع عن فرنسا وصد أية أخطار قد تواجهها، أو تؤثر سلباً على استقرارها. ومن هنا يبين المؤلفون خطأ تلك الصورة النمطية لدى البعض التي تميل عادة إلى اعتبار المسلمين الفرنسيين متواطئين بالصمت على الأقل، أو بعدم التنديد أو الانخراط في الجهد الرامي لمكافحة التعصب والتطرف، وكل هذا غير صحيح، لأن عدد المتطرفين ضئيل جداً إذا قيس إلى عدد المسلمين الفرنسيين الكبير. كما أن توجهات الأفراد العاديين والتيار الرئيس والمنظمات والمساجد والمعاهد الأكثر حضوراً في الفضاء المسلم الفرنسي العام كلها تقف بوضوح معلن ضد التطرف والإرهاب، كما تنخرط أيضاً مع السلطات ومونات المجتمع الأخرى في كثير من الأحيان في المعركة المصيرية الرامية لصد مخاطر الإرهاب على المجتمع الفرنسي بشكل عام. بل إن صدمة ما بعد هجمات سنتي 2015 و2016 أظهرت لدى المسلمين الفرنسيين نزوعاً وطنياً كبيراً، وهو ما كشف زيف كثير من دعاية إعلام اليمين الذي ظل يحاول الإيهام بأن المسلمين ذوي نزعة انعزالية، أو رافضة للاندماج، أو أنهم حتى «خلايا نائمة» للتطرف، ومؤيدون للعنف، صراحة أو ضمناً. وفي المجمل فقد اشتمل هذا الكتاب على كثير من التعرية لمثل تلك الصور النمطية، وحاول تقديم مسلمي فرنسا كما هم، وكما هي أي شريحة أخرى من مكونات المجتمع، متعددة في مواقفها، ولكن الحكم للأغلبية في النهاية، والأغلبية الساحقة منهم تقف ضد الإرهاب، ومستعدة لبذل كل جهد ممكن للدفاع عن فرنسا، والتصدي لكل ما من شأنه الإضرار بها أو بمصالحها في الداخل والخارج، وهو الموقف الوطني المتوقع منهم في مثل هذه الأحوال، بطبيعة الحال. حسن ولد المختار الكتاب: مسلمو فرنسا، والاختبار الكبير في مواجهة الإرهاب المؤلفون: كاهنة إسماعيل وفينسان غيسير وأميرو مورينجيو- بيريا الناشر: آتيلييه تاريخ النشر: 2017