بالنسبة لبعض سكان سيؤول، تبدو التغطية الصحفية الشاملة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية عن كوريا الشمالية وترسانتها المتزايدة من الصواريخ الباليستية وتهديداتها اللفظية، مصدر حيرة واندهاش. فهؤلاء السكان الذين يقطنون على بعد 50 كيلومتراً من أكبر تواجد عسكري حدودي في العالم، تعايشوا على مدار عقود مع تهديد الإبادة من دون انفعالات مبالغ فيها. ورغم ذلك، تجذب جعجعة بيونج يانج انتباه العالم، ومع كل تهديد جديد تتوالى التحقيقات الصحافية، والنصائح، والتغريدات الرئاسية في واشنطن. وفي هذه الأثناء، يتغافل كثيرون عن التطورات التي تحدث داخل كوريا الشمالية، والتي قد تكون لها عواقب على مستقبل الدولة المنعزلة أكثر من التحقيقات والتغريدات. ويقر الخبراء الآن بأن الاقتصاد الكوري الشمالي على أعتاب مرحلة تحول، مع نمو الأسواق الرسمية وغير الرسمية، وكذلك الشركات الخاصة، على نحو يعزز رفاهية المواطنين الكوريين الشماليين ويتحدى نظريات عجز الاقتصاد الحكومي. وفي كتابه الجديد: «إماطة اللثام عن اقتصاد كوريا الشمالية: الانهيار والتحول»، يقدم «بيونج –يون كيم» بيانات نادرة ودقيقة في كتاب يجدر بالدبلوماسيين وصناع السياسات المعنيين بكوريا الشمالية قراءته بعناية. ويقر «كيم»، الأستاذ في جامعة سيؤول الوطنية، بأن الوجود المتزايد للسوق الذي يعتمد على التجارة في كوريا الشمالية، ظاهرة تجذرت بصورة غير رسمية عقب المجاعة التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي، ولكنها أصبحت الآن متشابكة بصورة متزايدة مع الخطط الحكومية. وفي 2013، وضع «كيم جونج أون» سياسة تطوير فوري لاقتصاد الدولة والأسلحة النووية، ومنذ ذلك الحين، سمح بإنشاء زهاء 400 سوق بها أكثر من 600 ألف متجر، إضافة إلى عدد لا حصر له من الأسواق غير الرسمية، والتي تشكل ما بين 70 و90 بالمئة من إجمالي دخل الأسر رغم أنها غير قانونية. وبينما ركّز الغرب على الطموحات النووية لزعيم كوريا الشمالية، أفضت الإصلاحات في السوق إلى جانب القبول التكتيكي للمؤسسات الخاصة، إلى زيادة في الأجور ومستويات معيشة كثير من المواطنين، وهو ما يعقد الجهود الغربية الرامية إلى معاقبة بيونج يانج. ويبدو المؤلف مقنعاً بشكل كبير عندما يوضح النتائج طويلة الأمد لتلك التطورات على نظام كيم، قائلاً: «إن الأسواق ستحول هيكل الاقتصاد وتوجهات الناس، ويتوقع تحليلنا أن ذلك التوازن الدقيق بين قوة الأسواق وقوة الدولة لا يمكن أن يستمر على المدى الطويل، وفي نهاية المطاف ستسود المعطيات الاقتصادية بين الكوريين الشماليين». ويتصور «كيم» أن الزعيم الكوري الشمالي سيواجه في تلك المرحلة قراراً حاسماً: فإما أن يجازف بمحاولة قاسية لقمع الأسواق، أو يخفف قبضته فيما يمكن أن يكون بداية تحول على غرار النموذج الصيني. ورغم ذلك، فالتكهن بالأوضاع الاقتصادية في بيونج يانج أمر محفوف بالمجازفة، ويرجع سبب ذلك جزئياً إلى أن الاقتصاد الكوري الشمالي يكاد لا يحظى سوى بقدر ضئيل من الانتباه مقارنة بالاقتصادات الأخرى هو نقص المعلومات الموثوقة وبيانات الاقتصاد الكلي الدقيقة. ويمكن أن تختلف تقديرات النمو بشكل كبير. وخير مثال على ذلك، بيانات نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي عن عام 2015، والتي تراوحت بين 1% بحسب «بنك أوف كوريا» في سيؤول، و9% وفقاً لمعهد هيونداي للأبحاث. وأكد البنك المركزي الكوري الجنوبي الشهر الماضي أن اقتصاد الشمال حقق نمواً بنسبة 3.9%، بأسرع وتيرة في 17 عاماً. وتتوافق تلك النتائج مع ما توصل إليه «كيم» حول التعافي التدريجي الذي يحققه الاقتصاد الكوري الشمالي بعد هبوطه في تسعينيات القرن الماضي. غير أنه يشي بأن بيونج يانج لا تزال بعيدة عن مستويات الأداء الاقتصادي قبل الأزمة. وإضافة إلى تحليل الاقتصاد الكلي، يُسلّط كتاب «إماطة اللثام عن الاقتصاد الكوري الشمالي» معلومات قيمة مستمدة من حوارات مع مئات اللاجئين الكوريين الشماليين، وشركات تعمل في المنطقة الحدودية مع الصين. وينفي ذلك فكرة أن الكوريين الشماليين يعتمدون على التموين الحكومي، أو أن الصعوبات الاقتصادية عامل أساسي في تحفيز الانشقاقات. ويؤكد «كيم» أن متوسط الدخل الشهري من الاقتصاد غير الرسمي يبلغ زهاء 80 ضعف رواتب الوظائف الحكومية. وائل بدران الكتاب: إماطة اللثام عن اقتصاد كوريا الشمالية المؤلف: بيونج يون كيم الناشر: جامعة كامبريدج تاريخ النشر: 2017