ينشغل كثيرون ممن يريدون كتابة سيرهم الذاتية بنقطة البداية، أو الفكرة المركزية التي يجب أن تدور حولها، أو اللحظة الأكثر أهمية وجاذبية التي ينطلقون منها، أو المعاني العميقة الكامنة فيها، ويراكمون فوقها محطات حياتهم كافة حتى يكتمل بنيانها على الورق، كما سبق أن سارت نحو الاكتمال في دروب الحياة الوعرة. ومن يطالع السيرة الذاتية للدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث والاستراتيجية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات والكاتب بجريدة «الاتحاد»، يجد أنه حدد فكرتها المركزية في «التحدي» و«التصدي» أو «عدم الاستسلام»، كما ذكر هو نصاً، ولم يجد لحظة ينطلق منها أهم من تجربته المريرة في الصراع ضد مرض السرطان، الذي وضعه لحظة اكتشافه على حافة الموت، حسب تشخيص طبيب قال له دون مواربة قبل نحو عشر سنوات: «لم يبقَ في عمرك سوى أيام»، معتقداً، هذا الطبيب، أنه لم يبق لمريضه سوى معانقة الموت، بينما كانت حياة أخرى تولد لديه في هذه اللحظة الرهيبة العصيبة حافلة برغبة عارمة وجارفة في الصمود والمقاومة المستميتة أو العناد الإيجابي في وجه وحش كاسر يسكن جسده. ويمضي الكتاب وفق خط درامي واحد، وتتمتع لغته بالسلاسة والجاذبية والوضوح والدقة، وتعطي مثلاً ظاهراً في ضرورة أن يتحلى الشخص الراغب في تحقيق النجاح بالانضباط والجدية، والصرامة، والميل إلى التفكير العقلي والمنطقي والعملي، والميل إلى لعب دور بارز في الحياة، والاهتمام بقوة الإرادة ومضاء العزيمة، وحب المغامرة، والاستعداد الدائم لخوض المعارك في سبيل تحقيق الأهداف، وعدم الاستسلام للهزيمة، وضرورة أن يبذل كل إنسان جهداً في سبيل تعزيز دور التعليم في حياتنا، ومواجهة أخطار التطرف الديني. وقد تطرق الكاتب إلى كل هذه المعاني وهو يسرد تجربته في الطفولة الغارقة في الكفاح ضد شظف العيش، والتي ينبئنا فيها بأن أسرته قد أطلقت عليه اسمه تيمناً بالزعيم جمال عبدالناصر، ثم رهاناته وخياراته في الصبا والشباب، وتجربته في تكوين أسرة، ورحلته الدراسية في مختلف المراحل، ولاسيما مرحلة الدراسات العليا في الولايات المتحدة، وصراعه ضد من كانوا يتحكمون في إرسال البعثات بدولة الإمارات وكانوا وقتها ممن ينتمون لتنظيم «الإخوان»، وقت تغلغله في مختلف مراحل التعليم الإماراتي. وكذلك ما استفاده المؤلف من أسفاره العديدة سواء للتنزه أو الصيد أو لحضور مؤتمرات علمية في الخارج، والجهد الذي بذله في سبيل إنشاء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي بدأ في شقة صغيرة بأبوظبي عام 1994، لينتهي إلى مبنى فخيم فسيح الأرجاء، تتوالى إصداراته العلمية المؤلفة مباشرة باللغة العربية أو المترجمة إليها من لغات عدة، لاسيما في مجالات العلوم السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماع والتاريخ والجغرافيا السياسية والتعليم والتنمية المستدامة. ثم انتقال صاحب السيرة إلى الاهتمام بتأليف الكتب، بعد أطروحتيه للماجستير والدكتوراه، لتظهر كتبه تباعاً مثل: «مستقبل مجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة» و«وسائل التواصل الاجتماعي ودورها في التحولات المستقبلية: من القبيلة إلى الفيسبوك» و«آفاق العصر الأميركي» و«السراب» و«بصمات خالدة»، وصولاً إلى سيرته الذاتية تلك، ثم التكريمات والجوائر العديدة التي حصل عليها في الإمارات والعالم العربي والخارج، وآخرها جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع التنمية وبناء الدولة، علاوة على تجربة اجتماعية خيرية متمثلة في جمعية «رحمة» المهتمة بالتخفيف عن مرضى السرطان. وقد نجح الكتاب في توصيل فكرة أهمية الطموح في حياة أي إنسان، وضرورة أن يكون لكل شخص هدف يسعى إليه باستمرار، متخطياً كل العقبات التي تعترض طريقه. ويبقى الجانب المتعلق بمقاومة مرض السرطان تجربة مهمة من الناحية الإنسانية والأخلاقية وفيها نداء ليس للمرضى، وإنما للناس جميعاً بألا ينهزموا، أو بتعبير الكاتب «ألا يستسلموا أبداً». وفي طبعة لاحقة من هذه السيرة الضافية، يمكن للكاتب أن يجد متسعاً لإضافة أشياء أخرى في حياته لم يأتِ على ذكرها هنا، منها قضية انشغاله بالتعليم منذ ربع قرن تقريباً، وما علمته إياه دراسة العلوم السياسية وتدريسها في فهم الذات والحياة والعالم، وتناول أعمق لتجاربه في مراكز الدراسات والجامعات الأميركية. والأفكار التي كانت تأتيه أثناء حضور مؤتمرات وندوات دولية، وكيف أثرت على رغبته في صناعة تجربته الخاصة من خلال إنشاء مركز الإمارات، وتصوراته عن المستقبل خاصة في مجالات التعليم، ومواجهة التطرف الديني، والتنمية الشاملة، والحلم أو الطموح الشخصي، إلى جانب حكايات قصيرة ومواقف إنسانية في بعض البلدان التي زارها، ولاسيما أن الكتاب بدا في بعض مواضعه مهتماً بأدب الرحلات، لتبقى رحلة الكاتب نفسه التي شملها الكتاب من أوله إلى آخره هي ما يلفت الانتباه، ويمنح الكثير من العبر والعبرات في آنٍ.