عانت إسبانيا كثيراً ولا تزال، كغيرها من البلدان الأوروبية تداعيات الأزمة المالية العالمية، إلا أنها استطاعت تجاوز عقبات صعبة لتستعيد الكثير من عافيتها الاقتصادية، إذ ساهم في ذلك العديد من العوامل، كالدعم المالي من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي وسياسات التقشف الحكومية، والذي أدى إلى تقليص الإنفاق الحكومي والعجز في الموازنة. وفي هذا المجال، حققت إسبانيا نتائج أفضل من غيرها من البلدان الأوروبية المتأزمة بشدة، كاليونان وإيطاليا، فالأولى بُليت بالاضطرابات المتكررة والتي لا معنى لها، أما الثانية، فان العاملين هناك أصابهم شيء من الخمول بسبب التعالي المزيف. في إسبانيا الوضع مختلف تماماً، هناك التواضع وحب العمل والتعامل مع الآخر بروح سمحة ومحبة، حيث يكمن هنا أحد أسباب تمكن إسبانيا من الخروج من المأزق الذي تعرضت له، أي تلك المتعلقة بقيم العمل، فأينما تذهب، بما في ذلك قطاع الفندقة والمطاعم والمرافق السياحية وعمال النظافة ستجد أن معظم العاملين، إنْ لم يكن جميعهم من الإسبان، وهو ما لم تجد له مثيل في معظم البلدان الأوروبية. صحيح هناك كثير من الأيدي العاملة القادمة من أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وبلدان المغرب العربي، بل حتى من بريطانيا وفرنسا، إلا أن الأيدي العاملة الإسبانية هي الطاغية، علماً بأن العاملين الأجانب يعاملون، معاملة حسنة دون أي تمييز. والمسألة هنا لا ترتبط بمفهوم قيم العمل الشكلي، وإنما بنتائجه الاقتصادية المهمة والتي تساهم في تقليل أعداد العاطلين عن العمل ورفد الاقتصاد الوطني بموارد مالية كثيرة، ودعم ميزان المدفوعات من خلال تقليل التحويلات المالية الخارجية، كما أن ذلك يساعد في زيادة الادخار والاستثمارات الخاصة الصغيرة، والتي تشكل أهمية كبيرة لتحسن النمو والأوضاع الاقتصادية بشكل عام. وإذا أضفنا إلى ذلك الميزات المهمة التي يتمتع بها الاقتصاد الإسباني وما تتمتع به إسبانيا من جمال الطبيعة وطيبة شعبها، فإن الاقتصاد الإسباني سيحقق تقدماً جيداً في السنوات القادمة، وذلك بفضل تفاني المواطنين في خدمة بلدهم والنظر إلى العمل، كقيمة عليا للتطور والنمو. لذلك يمكن لبقية البلدان الأوروبية التي طالتها الأزمة بشدة والمدمنة على الأيدي العاملة الأجنبية الاستفادة من التجربة الإسبانية، بما في ذلك احترامهم لقيم العمل، والذي يعكس رقيهم وتفهمهم لطبيعة الأزمة، التي يواجهها وطنهم، كما تشكل هذه التجربة الإسبانية أهمية خاصة للمواطنين الخليجيين والذين تأثرت نظرتهم لقيم العمل بصورة كبيرة بعد الارتفاع الكبير في عائدات النفط، إذ لم تعد الكثير من مهن الآباء والأجداد مرحباً بها، بل يتم النظر إليها بدونية، مما يزيد من الأعباء المالية والبطالة وزيادة التحويلات الخارجية. ومع أن النظرة لبعض الأعمال بدأت في التغير التدريجي خليجياً، إلا أنها بحاجة لنظرة أكثر موضوعية وصحيحة، فتغيير قيم العمل ستكون له نتائج اقتصادية مهمة، فإيجاد توازن بين الأيدي العاملة المحلية والأجنبية مسألة في غاية الأهمية لمرحلة ما بعد النفط، إضافة إلى أنها تُكسب العاملين فيها احترام وتقدير المجتمع، إلا أن ذلك بحاجة لجهود كبيرة لتعزيز تغيير ثقافة قيم العمل، التي ما زالت متأثرة بسنوات الطفرة النفطية.