«الفلسفة عصفور بنفسجي يُغرد على شجرة ليلك أرجوانية»، قال ذلك الشاعر إليوت، وهكذا غرَّدَ قلبي عندما زرت في الأسبوع الماضي عالم وفيلسوف الرياضيات «رشدي راشد» في مكتبه بضواحي باريس، وعلمتُ بنبأ منحه وسام «الهيئة العالمية لتاريخ الرياضيات»، والذي يُمنحُ كل أربع سنوات، وبصدور كتابه «القاموس التاريخي للمفاهيم العلمية في اللغة العربية»، وهو موسوعة في ألف صفحة، ولم يكن ممكناً صدوره من دون اكتشاف مخطوطات مجهولة، وتحقيقها، ودراستها، وكان مستحيلاً وجودها لو لم يترجمها ويبحثها علماء ومترجمو عصر النهضة العربية الإسلامية، ومن دون ذلك لا يمكن معرفة دور الحضارتين العربية والإغريقية في التاريخ، أي لا يمكن معرفة التاريخ. ومنذ أول مقال كتبتُه عن «راشد» في 1989 لم يمّر عام لم يُمنح فيه جائزة عربية أو عالمية، بينها أعلى وسام فرنسي «جوقة الشرف» قدّمه له بنفسه «ميتران» رئيس الجمهورية آنذاك. وما مَرّ عام لم يَمنح راشد فيه العالَم كتاباً أو بحثاً يغيّر تاريخ العلوم والتكنولوجيا. كتابه بالفرنسية «من الخوارزمي إلى ديكارت»، يعتبره العالم الصيني «شيكارا ساساكي» «مساهمة فذة في تاريخ الرياضيات العالمي، برهن فيه أن الرياضيات العربية السلف الذي لا غنى عنه لبواكير الرياضيات الأوروبية الحديثة». ويُعَرِّف راشد بنفسه كمؤرخ للعلوم، «فلا هو ناقد للعلوم على غرار ناقد الفن، ولا هو مؤرخ بمعنى صاحب اختصاص في التاريخ الاجتماعي، ولا هو فيلسوف من بين فلاسفة العلوم، بل هو ببساطة فينومينولوجي البنى المفهومية، فينومينولوجي نشأتها وتولداتها داخل السنن المفهومية المتغيرة على الدوام». وأبسط تعريف لـ«الفينومينولوجيا» ما قاله «هوسرل» مؤسس فلسفتها: «كما لو أن الشيء الذي تتم دراسته يصف نفسه لو كان يملك القدرة على الكلام». وفي بحوث «راشد» تتكلم الأشياء، وتقول: «دراسة التراث العلمي العربي لا زالت على الشاطئ ولم تدخل البحر بعد». ويا لعظمة ما فعله قدماء علماء العرب والمسلمين وما يلهموننا بفعله. فحركة الترجمة والبحث في العصر العباسي ارتبطت بحركة البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقد استمدّت قوَّتها من تكوّن فئات اجتماعية من سكان المدن تطلُب هذه «العلوم العقلية». و«كانت الفئات الجديدة من الإداريين، ويُعرَفُون بالـ(كُتاب)، تحتاج من أجل تكوين أجهزتها البشرية إلى علم الحساب وإلى لغة تتناسب مع متطلباتها، كما إلى ثقافة عامة في مختلف فروع المعرفة. وكان للدولة أيضاً متطلّبات في علم الفلك والجغرافيا وفي تقنيات التنظيم المدني». ومعجزة تاريخ العلوم العربية صوتها الذي سمعه «راشد» إثر هزيمة يونيو 1967. آنذاك قرر «البحث في التراث العربي العلمي والعقلي الذي بُني على مدار 4 قرون لإنشاء حضارة جديدة نستند عليها كعرب في حاضرنا، لأنني أيقنت أن النكسة كانت هزيمة حضارية لا عسكرية». ودرس راشد الرياضيات والفلسفة في جامعة القاهرة بمصر، وحصل على الدكتوراه في تاريخ الرياضيات من «جامعة باريس» بفرنسا، وأصدر مؤلفات حول حساب الاحتمالات والميكانيكا. وقفز منها في رحلة نصف قرن أبدع خلالها نحو خمسين كتاباً، ومائة بحث، بعضها كنوز معرفية، مثل «الرياضيات التحليلية بين القرنين الثالث والخامس للهجرة» الذي استغرق تأليفه 15 عاماً، وصدر في خمسة مجلدات وخمسة آلاف صفحة، وتُرجم إلى لغات عالمية عدة، بينها العربية. وترجمة أعمال «راشد»، وكلها بالفرنسية، عمل مترجمين متخصصين (معظمهم علماء)، ونشرُها.. إنجاز لغوي وطباعي. ويدوِّي صوت تاريخ العلوم العربية في محاضرة «راشد» في «مؤتمر التراث الإسلامي» داخل البرلمان البريطاني، وفيها تحدّث عن حوار بين أطراف متساوية، هدفه ليس تبادل الآراء فقط بل تغييرها. «وفي الواقع أن الحوار غير المفعم بتطلب المعلومات وتحويلها ليس سوى حوار بين الطرشان، أو محض مونولوجات».