يخبرنا التَّاريخ عن محن مرت على فقهاء الدِّين، مِمن ليس لهم في الشأن السياسي، وربما أبرزها كانت محنة الطَّبري (ت 310هـ)، صاحب «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» و«تاريخ الأُمم والملوك»، و«اختلاف الفقهاء». طالت المحنة جنازته، بعد حصار في داره ببغداد من قِبل الحنابلة لفترة طويلة بتهمة الانحراف عن الدين (مسكويه، تجارب الأمم). كذلك تعرض الفقيه الحنبلي ابن عقيل (513هـ)، لمحنة مماثلة بتهمة تردده على شيوخ المعتزلة، وقراءة كُتب علم الكلام، ففتشوا داره، ووجدوا فيها كتباً معتزلية، ونصوصاً تترحم على الحلاج، فصدرت بحقه فتوى قتل، ثم استتيب (ابن قُدامة، تحريم النظر في كتب الكلام). قُتل بفتوى الفقهاء فقيهان عُرفا في أدب الإمامية بالشهيد الأول والثَّاني، شمس الدِّين الجزيني، صاحب «اللمعة الدمشقية»، في العهد المملوكي بدمشق (786هـ)، والسبب وشاية في الانحراف عن الدِّين (الأمين، أعيان الشيعة)، والثاني زين الدين العاملي (قتل 965هـ)، اُتهم بالانحراف، وطُلب أن يُحمل إلى السلطنة العثمانية، لكنه قُتل في الطريق، وحمل رأسه إلى السلطان، وقد أنكر الأخير فعلة القاتل فقتله (كوثراني، الفقيه والسلطان). تلك لمحة عن محن فقهاء الدين، على يد السلطات وزملائهم مِن الفقهاء، لكن محنة محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985)، لها مدلول آخر، فالعهد مثلما صرح قادة الثورة أنه نصرة الدين وضد الظلم والاستبداد، فكيف لمرجع بحجم شريعتمداري أن يُسجن ويُقهر ويمنع من العلاج خارج إيران، وتحجب الصلاة على جنازته، وقيام مجلس عزاء له، وينفذ كل ذلك مِن قِبل زميله مرشد الثورة؟! كتب قصة المحنة المجتهد رضا الصدر (ت 1994)، أخو موسى الصدر، الذي غيبته السلطات الليبية (1978) في كتابه «سجن ولاية الفقيه»، وكان على صِلة متينة بالمرجع شريعتمداري، لكنه لم يره خلال سنوات اعتقاله، فداره كانت محاطة بحرس الثورة. كتب الصدر رسائل إلى الخميني لفك سجن شريعتمداري، الذي أُظهر منكسراً لإعلان توبته أمام الملأ، ومعلوم أن إعلان التوبة لشخصية مِن حجمه أشد مِن الإعدام. أُحيط المستشفى بالحراسة، ومنع ولده من الحديث معه من ألمانيا، وعند وفاته أُغلق المستشفى، ونُقل الجثمان من الباب الخلفي، ليُغسل ويُدفن تحت جنح الليل، خشية تشييعه في النهار. كانت وصية شريعتمداري: تغسيله في حُسينيته، وأن يُصلي على جنازته الصدر، ودفنه عند ضريح السيدة معصومة بقم، ولأنه يعرف موقف النظام منه قال: «وإذا منعوكم منها فادفنوني في حُسينيتي». مُنع تنفيذ الوصية، واقتادوا الصدر إلى دائرة الأمن، للتحقيق عن علاقته بأستاذه المرجع شريعتمداري. صادف ذلك اليوم ذِكرى وفاة الإمام الكاظم، ومِن العادة أن يُلبس السواد، لكنه مُنع على الأقربين. كان تزامن وفاته مع ذكرى الإمام وتشابه الاسم والمحنة أمراً مقلقاً للنظام. يقول رضا الصَّدر: «يشهد التَّاريخ بأن الحكومات التي حكمت باسم الدين والمذهب، لم تنفع المذهب، بل كانت تزرع البغض والحقد على المذهب، والحكومة الوحيدة التي تنفع المذهب هي الحكومة اللائكية». أي فصل الدين عن الدولة. كان تآمر شريعتمداري على الثورة، والذي استحق عليه التنكيل به في حياته ومماته، عدم موافقته على تسمية الجمهورية الإيرانية بالإسلامية، واعتراضه على الممارسات التي صبغت الثورة بلون الدم، وهو لديه جمهور عريض من المقلدين. فحسب الصدر: «كلُّ مَن لا يُقلد الخميني لا يستخدمونه..». لم يحمل شريعتمداري السلاح، ولم يفتِ ضد السلطة، كان له رأي، مثلما بقية مراجع الإمامية غير المتفقين مع ولاية الفقيه، لكنه أفصح عن رأيه داخل إيران. أقول: ماذا لو أن شريعتمداري اُعتقل في أيام الشاه، وجرى ما جرى لجنازته على يده، ألم يكن شهيداً مجاهداً، عند قادة الثورة، وسارت التَّظاهرات هاتفةً بتمجيده؟! لقد صمتت القوى الإسلامية صمت القبور، على ما جرى، بل عندما يسألون يجيبون برواية السجان، بأنه كان «متآمراً»! كان ظهور شريعتمداري، وهو مرجع كبير، يُستتاب على شاشات التلفزيون ويُسجن في داره، جرأة على الدين والمذهب، مع أن العثمانيين بعد الدستور (1908) لم يجيزوا سجن فقهاء الدين، مثلما حصل مع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (عُقود حياتي). أقول: مثلما لم تؤثر كلمة حسن البنّا (اغتيل 1949): «خلصونا مِن الخازندار» بالقتل (عبد العزيز كامل، في نهر الحياة)، في الإسلام السياسي السُّني، كذلك لم تؤثر قسوة الخميني ولعبه دور سجان الإمام الكاظم (183هـ) بسجنه سميه شريعتمداري، شيئاً في الإسلام السياسي الشيعي، لأن الأمر يتعلق بأيقونتي «العقيدة المقدسة». في هذا التصرف، اختفى الخميني الفقيه، المكتمل للشرائط، وبرز الخميني السياسي الثوري طاوياً كتابه وشاهراً سيفه. لله درّ القائل: «طموحُ السَّيْفِ لا يخْشَى إلهاً/ ولا يَرجو القِيامَةَ والمَعادا» (المعري، سقط الزند).