منذ تفجر الأزمة مع النظام القطري، كان واضحاً أن أمدها سيطول، لأنها تتعلق بمصالح عليا لطرفيها، فالدول المقاطعة للنظام تدافع عن أمنها واستقرارها ضد الإرهاب الذي يدعمه هذا النظام وأعمال التخريب السياسي التي يقوم بها، وهو من ناحية أخرى يعتبر أن هذا السلوك هو المقوم الأساسي للدور الذي يتوهم أنه من الممكن أن يضطلع به ضد حقائق الجغرافيا والتاريخ والسياسة. وراهنت الدول المقاطعة على أن الرفض الدولي للإرهاب وتأثير المقاطعة كفيلان بإعادة النظام القطري إلى رشده، بينما راهن هذا النظام على الخلل في تعريف الإرهاب لدى بعض القوى الدولية النافذة والمصالح التي تجمع بينه وبينها، ناهيك عن حقيقة أنه ينفذ مخططات لها كأساس لسياسته في مواجهة المقاطعة، خاصة وقد اتبعت هذه القوى مواقف مائعة تتهرب من مواجهة جوهر الأزمة وتتخفى وراء بعض التصريحات «الإجرائية» كالحديث عن ضرورة الحوار للحفاظ على استقرار الخليج ووحدته. وهكذا سلك النظام سبيل العناد، بل راح يشكو الدول المقاطعة تارة في منظمة التجارة العالمية، وأخرى في منظمة الطيران المدني، وثالثة في مجلس الأمن، وإنْ خابت مساعيه كافة، غير أنه ثابر على اتباع سياسة المراوغة، متصوراً أنها طريقه إلى النجاة. وتؤكد التطورات الأخيرة هذا المسلك المراوغ على نحو مخجل، فقد صرح سمو أمير الكويت في ختام زيارته الأخيرة لواشنطن بأن قطر مستعدة للحوار مع الدول المقاطعة حول مطالبها عدا تلك التي تمس السيادة، فإذا بوزير الخارجية القطري يرد بأن المطالب كافة تمس السيادة، وهو ما ينسف تصريح سمو الأمير على نحو يمثل إساءة شديدة للرجل الذي عرف عنه دأبه الشديد في السعي لتسوية أي خلافات عربية، فكان جزاؤه أن يستخف به النظام القطري على هذا النحو! إذ لا يتصور أحد أنه قد أتى بهذا الكلام من وحي أفكاره، وهو الدبلوماسي والقائد المخضرم، وهذا يثير التساؤل عما إذا كان النظام القطري يتخبط بسبب ضغط الأزمة على صانعي القرار الرئيسيين فيه، إما بسبب الجهل بحقائق الأزمة وتصوره إمكان المراوغة بلا نهاية أو تصارع أدوار داخل النظام أو تأثيرات خارجية عليه! وأياً كان السبب، فإن هذا التخبط يجعل السياسة المراوغة للنظام أكثر عقماً، ولم تكد أصداء هذه الواقعة تخفت حتى تلتها واقعة أخرى أسوأ وأضل سبيلاً، ففي صباح السبت الماضي بثت وكالة الأنباء السعودية خبر تلقي ولي العهد السعودي اتصالاً هاتفياً من أمير قطر، وذكرت الوكالة أنه قد أبدى رغبته في الجلوس إلى مائدة الحوار ومناقشة مطالب الدول الأربع بما يضمن مصالح الجميع. وأفادت بأن ولي العهد رحب بهذه الرغبة، لافتة إلى أنه سيتم إعلان التفاصيل لاحقاً بعد التفاهم مع الإمارات والبحرين ومصر. وسرعان ما تناقلت الصحف ومواقع إخبارية نقلاً عن وكالة الأنباء القطرية أن أمير قطر وافق على طلب ولي العهد بتكليف مبعوثين من كل دولة لبحث الأمور الخلافية بما لا يتعارض مع سيادة الدول، وهو ما يقلب الأمر رأساً على عقب! فهذا يعني أولاً أن ولي العهد السعودي هو الذي طلب وليس الأمير، والفارق كبير، لأنه في هذه الحالة تبدو الدول المقاطعة هي المتلهفة على الحوار! ومن ناحية ثانية، تشير الصيغة السعودية إلى رغبة قطرية في الحوار حول المطالب الثلاثة عشر بما يحقق مصالح الجميع، وهو أمر منطقي، فهناك مطالب من الدول الأربع ناجمة عن الممارسات الخطيرة للنظام القطري. أما في الصيغة القطرية فلا يعدو الأمر أن يكون «خلافاً» وليس اتهامات تُشكل جريمة مكتملة الأركان. وعلى رغم تعدد التفسيرات لهذا السلوك القطري، فقد أصبحت أميل إلى الرأي القائل بأن الأمير ليس هو الحاكم الفعلي في قطر، أو على الأقل ليس هو المرجعية العليا هناك، وأتصور مثلاً أن الأمير تصرف على سجيته في مهاتفة ولي العهد السعودي غير أن «المراجع العليا»، أياً كانت، لم يعجبها الحال، فخرجت وكالة الأنباء القطرية بهذه الرواية المشوهة. وأتصور أيضاً أن هذا ما حدث بالنسبة لتصريحات أمير الكويت، وللأسف فإن هذا يعني أن النظام القطري بوضعه الحالي غير مؤهل للتوصل إلى تسوية لن تصبح ممكنة إلا بتغير في معادلته السياسية.