إنها فرصة نادرة. ذلك أنه قلّما تتاح لجمهور الناخبين فرصة رؤية سياسييهم المنتخَبين يواجهون وعوداً كاذبة محدَّدة صدرت عنهم بمثل هذه السرعة. إذ عادة ما تكون وعود الحملات الانتخابية إما جد فضفاضة حتى تقارَن مع الواقع (مثاله «لنجعل أميركا عظيمة من جديد»)، أو لا يمكن التأكد من إمكانية الوفاء بها إلا بعد وقت طويل. وبحلول الوقت الذي يأتي فيه «الارتفاع المضمون» أو لا يأتي، يكون الشخص الذي وعد به قد غادر منصبه منذ وقت طويل. غير أن ما يحدث في بريطانيا هذه الأيام شيء مختلف تماماً. فخلال استفتاء العام الماضي، قدّم السياسيون الداعون لانسحاب بلدهم من الاتحاد الأوروبي تأكيدات بعضها يعود إلى الجهل، حيث تبين أن قلة قليلة منهم فقط كانت تفهم طريقة اشتغال الاتحاد الأوروبي، فيما كان بعضها الآخر أكاذيب متعمدة. ولأنهم لم يكونوا يتوقعون الفوز في تلك الحملة، فإنهم لم يتوقعوا أن يتم كشف جهلهم أو كذبهم. لكنهم بعد ذلك فازوا، والآن أخذت أكاذيبهم تنكشف. ولعل أكبر كذبة هي تلك المتعلقة بالمال. فخلال حملة الاستفتاء، كان قادة المعسكر المؤيد للبريكسيت يجوبون البلاد على متن حافلات حمراء كبيرة كتب عليها شعار: «إننا نرسل للاتحاد الأوروبي 350 مليون جنيه إسترليني كل أسبوع، أموال ما أحوج نظامنا الصحي الوطني إليها!». وكانت تلك حجة قوية ومؤثرة، كما اعترف مديرو حملة الانسحاب، لكنها أيضاً كانت مفبركة، ذلك أن بريطانيا لم تكن ترسل 350 مليون جنيه إلى الاتحاد الأوروبي أسبوعياً، وقد اعترف بذلك بعض أعضاء المعسكر الفائز لاحقاً. والآن، وبدلاً من تلقي «350 مليون جنيه كل أسبوع»، علّق المفاوضون في جدل حول كم من المال تدين به بريطانيا لأوروبا، بسبب وعود تتعلق بالميزانية لم يتم الوفاء بها، واتفاقيات وُقعت ولم تُحترم. ولعل الأهم من ذلك هو أن الحكومة البريطانية أخذت الآن فقط تدرك أن الانسحاب من السوق الأوروبية المشتركة سيكلّفها أموالاً بطرق أخرى أيضاً. إذ قد تصبح ثمة حاجة الآن لإعادة إنشاء هيئات أوروبية مصممة بشكل مشترك، بكلفة كبيرة ومن الصفر. ومثال ذلك الهيئات المقنِّنة النووية والصيدلانية. كما أنه من الممكن أيضاً أن تكون ثمة حاجة لمصلحة جمارك كبيرة جديدة، بمواقف للسيارات على الحدود وأنظمة حاسوبية وعملاء جمارك، وذلك للتعاطي مع أنظمة التعرفات الجديدة عندما تصبح بريطانيا خارج الاتحاد الجمركي الأوروبي. أما الكذبة الثانية التي ترددت كثيراً خلال الحملة، فهي أن مغادرة السوق الأوروبية الموحَّدة ستكون سهلة وبسيطة. فقد قال ليام فوكس، رئيس الوفد البريطاني المفاوض حول التجارة، إن الاتفاق التجاري الجديد مع بريطانيا سيكون «الأسهل في التاريخ البشري». ومن جانبه، قال ديفيد ديفيس، الوزير المكلف بالعملية برمتها: «إننا نستطيع عقد اتفاقات.. ونستطيع القيام بذلك بسرعة». لا بل إن مسؤولين آخرين ألمحوا إلى أن كل أنواع الاتفاقات التجارية عبر العالم يمكن أن تصبح جاهزة في غضون أشهر. لكن عملياً، مرّت أكثر من سنة على الاستفتاء، كما مرّت قرابة ستة أشهر على تفعيل بريطانيا للمادة 50، التي تعني إطلاق عملية «الخروج من الاتحاد» فعلياً. وخلال هذه الفترة، لم يتحقق أي تقدم. والحكومة البريطانية نفسها منقسمة حول موقفها، ما يجعل من الصعب التفاوض مع بروكسيل. إن ما سيحدث في الخطوة التالية غير واضح. فنحن نعرف أن وعود قادة المعسكر المؤيد للبريكسيت كانت فارغة وتقييماتهم خاطئة. ولا بد أن أي مصداقية متبقية لهذه الحكومة قد تبخرت الآن. ومع ذلك، فإن الانتخابات مسائل معقّدة يصعب التنبؤ بها، والولاءات الحزبية قوية، وهناك مواضيع أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار. بيد أنه خلال حملة الاستفتاء، لم يكن الناخبون منزعجين بالحقائق. وخلال الانتخابات المبكّرة الأخيرة، بدَوْا أقل ارتياحاً إزاء الحزب الحاكم ورفضوا منحه أغلبية مطلقة. فهل ستتم معاقبة قادة المعسكر الداعي للبريكسيت في مكاتب الاقتراع؟ الجواب مهم، لأن لحظة مماثلة وشيكة الحدوث في أميركا. ذلك أن ترامب عندما كان مرشحاً أطلق وعوداً انتخابية منها بناء جدار على الحدود مع المكسيك تتولى دفع تكاليفه. ولم يكن مهماً كم من سياسي مكسيكي نفى حدوث ذلك، لكن ترامب استمر في تكرار وعده. واليوم، تلوح معارك الميزانية في أفق واشنطن، لكن على نحو غير مفاجئ، لا يبدو احتمال دفع المكسيك كلفة بناء الجدار الحدودي الموعود أكبر من توفير البريكسيت لـ350 مليون جنيه أسبوعياً لبريطانيا. فهل سيقوم أنصار ترامب بمعاقبته لأنه فشل في القيام بما وعد به؟ آن أبلبوم محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «بلومبرج نيوز سيرفس وواشنطن بوست»