دراسات كثيرة كُتبت حول العلاقات الصينية- الأفريقية منذ تأسيس الصين الشيوعية على يد المعلم ماو، الذي حاول جاهداً أن تكون لبلاده اليد الطولى في القارة على حساب الأميركان والسوفييت، فنجح في بعض دولها وخاب في بعضها الآخر. وقتها كانت أداة ماو هي الأيديولوجيا الشيوعية وشعاراتها البراقة حول مناهضة الاستعمار الغربي وتحرير الانسان الأفريقي. لكن هذه الأداة تغيرت مع بدء حقبة "دينج زياو بينج" في 1978، وحل محلها كسب ود الأفارقة من خلال الاستثمار في مشاريع البنى التحتية وتقديم القروض الميسرة والهبات، خصوصاً مع صعود الصين اقتصادياً وتراكم الأموال في خزائنها. ومن المفيد هنا التذكير بأن القيادة الصينية بدأت هذه المحاولات في بداية الأمر عبر التعاون الثنائي الهادئ، ثم طورتها لاحقاً عبر التعاون الجماعي في إطار ما أطلق عليه "منتدى التعاون الصيني الأفريقي". على أن الأسلوب الصيني الجديد في التعاطي مع الأفارقة لا يخلو من الجدل. ذلك أن مراقبين كثرين، يرون في التغلغل الصيني في أفريقيا هدفه الاستفادة من ثروات القارة بأساليب ناعمة مختلفة عن الأساليب القديمة، خصوصاً وأن أفريقيا سوق استهلاكية واعدة للسلع الصينية الرخيصة (ومنها السلاح الذي لا تعترف بكين بالحظر الدولي على بيعه وتسويقه)، كما وأنها منبع ثروات اقتصادية هائلة يحتاجها التنين الصيني في العقود المقبلة لمواصلة صعوده الاقتصادي ومزاحمة النسر الأميركي (على سبيل المثال 90% و 50% و30% و9% من إنتاج البلاتين والذهب واليورانيوم والحديد الخام في العالم على التوالي، علاوة على 10% و12% من احتياطيات الغاز والنفط العالمية على التوالي). وبطبيعة الحال ينفي الصينيون هذه المزاعم قائلين إن بلادهم مجرد شريك اقتصادي يعرض المساعدات من دون شروط، ويحصل على ثروات القارة مقابل تجديد بنيتها التحتية المتهالكة، والأهم أنه لا يتدخل في الشؤون الداخلية كأن يضغط من أجل الديمقراطية وحقوق الانسان والشفافية أو يزيح أنظمة ويثيت مكانها أنظمة أخرى. ما جعلنا نعود إلى ملف العلاقات الأفريقية ــ الصينية حدثان استأثرا باهتمام المراقبين مؤخراً: الحدث الأول هو تدشين بكين لقاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي، هي الأولى من نوعها للصين خارج حدودها. وعلى الرغم من قول الصينيين إن القاعدة ليست سوى لوجستية الهدف منها إمداد السفن الصينية المشاركة في مهام حفظ السلام بما تحتاجه من مؤن وصيانة، فإن مراقبين كثرين نظروا إلى الأمر من زاوية التمدد العسكري الصيني المتنامي في المحيط الهندي، خصوصاً بعدما أعلن الرئيس الصيني "شي جينبينج" في وقت سابق من العام الجاري "إن على الصين أن تحول قواتها العسكرية بسرعة إلى جيش عالمي"، ناهيك عن الزيادات المستمرة في ميزانية الجيش الأحمر التي وصلت الآن إلى 151 مليار دولار. وهناك من قرأ الحدث من زاوية إصرار بكين على استغلال أي فرصة لتثبيت وجودها في القارة السمراء أمام القوى الأخرى المنافسة، ذلك أن جيبوتي، بموقعها الاستراتيجي المهم، تحتضن قاعدة فرنسية، وقاعدة أميركية (بها أكثر من 3 آلاف عنصر وتعتبر الوحيدة لواشنطن في أفريقيا) وقاعدة مشتركة لدول الاتحاد الأوروبي غرضها مكافحة عمليات القرصنة، وقاعدة يابانية (انشئت في عام 2009 للتصدي للقراصنة الصوماليين)، علاوة على قاعدة سعودية يجري بناؤها لدعم الشرعية في اليمن بموجب اتفاق وقع في مارس 2015. الحدث الثاني تجلى في زيادة تركيز الصينيين على ربط المدن الأفريقية بخطوط سكك حديدية عالية السرعة من خلال تقديم التكنولوجيا والتمويل والإدارة. وهذا الأمر لئن تم طرحه وتداوله منذ 2014 في إطار مبادرة "طريق الحرير"، فإن له أهدافاً أخرى ربما ذات صلة باستغلال موارد القارة الأفريقية، خصوصاً إذا تذكرنا أن المستعمر البريطاني سلك الطريق نفسه حينما جلب مئات الآلاف من رعاياه الهنود إلى أفريقيا لبناء الخطوط الحديدية. هذا ناهيك عن أن الصينيين منذ عهد "صون يات صن" آمنوا بفكرة أن السكك الحديدية السريعة هي الاستراتيجية المثلى للتوحيد وتعزيز الروابط. والجدير بالذكر أن خلفاء "صون يات صن" التزموا بهذه الفكرة التي من تجلياتها قيامهم في الفترة ما بين عامي 1970 و1975 بإنفاق 500 مليون دولار وتوظيف 50 ألف مهندس وفني صيني من أجل تشييد سكة حديد "تان ــ زام" الرابطة بين مناجم النحاس الغنية في زامبيا والعاصمة التنزانية بطول 1800 كلم، طبقا لما كتبه أستاذ العلاقات الدولية الزميل "راجا موهان" بصحيفة إنديان اكسبرس. ونضيف هنا أن الصين هي التي أنجزت أيضاً خلال 6 سنوات خط دار السلام ــ كابيري مبوشي الحديدي التنزاني والذي افتتح رسمياً عام 1976. واليوم يقع بناء شبكة سكك حديد أفريقية في قلب الرؤية الصينية للتوغل عميقاً في أفريقيا، ويكثر الحديث بصفة خاصة حول خط حديدي يربط ما بين ميناء جديد في لامو بشمال كينيا ودولتي جنوب السودان وإثيوبيا اللتين لا تطلان على البحر. وكنوع من تطييب خواطر الأفارقة المستائين من مشاريع صينية لا تخلق فرص عمل، ولا تعتمد في مشترياتها على الأسواق المحلية، تقوم بكين بضخ مليارات الدولارات في صناديق التنمية الأفريقية، وتقديم مليارات أخرى في صورة قروض ميسرة مع عروض لتدريب عشرات الآلاف من الأفارقة في الجامعات والمعاهد الصينية. علاوة على ذلك هناك توجه صيني لإسقاط ديون بعض الدول الأفريقية، حيث تم بالفعل إعفاء 32 دولة أفريقية من 150 ديناً مستحقاً للصين، كان آخره ما حدث في الشهر الماضي مع السودان التي بلغ حجم ديونها المستحقة للصين في نهاية العام الماضي نحو بليوني دولار. حيث اسقطت بكين 24 مليون دولار من هذه الديون وقدمت 75 مليون دولار كمنحة جديدة.