هل يحق لنا أن نتساءل عما ورائيات المشهد الكوري الشمالي الأخير؟ يمكن للمرء أن يتفهم أن هناك أوراقاً خفية عديدة في الأزمة الأخيرة ربما تبدأ من عند نظام بيونج يانج نفسه، حيث يسعى «كيم جونغ أون» إلى مدركات لا يمكن أن تكون خفية في المطلق، فهو بدايةً يريد اعترافاً أميركياً ببرنامجه النووي وحقه في امتلاك هذا السلاح، ويتطلع لأن ترفع واشنطن عن بلاده العقوبات المفروضة عليها منذ حروب الخمسينيات، وكذا يأمل في أن تسحب واشنطن جنودها من كوريا الجنوبية، وأن تعود مرة جديدة لصفوف المجتمع الدولي. يلفت النظر في الأزمة أننا أمام رقعة شطرنج إدراكية تجري فيها مبارزة على أعلى مستوى بين واشنطن من جهة ودول شرق آسيا من ناحية أخرى لاسيما الصين وروسيا. الدولتان الكبريان تعلمان علم اليقين النوايا الأميركية حيالهما، والصراع المعلن والخفي من الجانبين يفيد أن من سيسيطر على مقدرات المحيط الهادي، ستكون لها الغلبة واليد العليا في القرن الحادي والعشرين، ولهذا لايمكن فصل ما يجري في كوريا الشمالية عن الصراع على النفوذ هناك. هنا أيضاً نتساءل: هل يمكن لمثل هذا البرنامج النووي والصاروخي أن تجري به المقادير دون علم مسبق من بكين وموسكو؟ الجواب ربما يكون أبعد من حدود علامة الاستفهام اذ يأخذنا إلى فكرة التعاون أو على الأقل غض الطرف عن تلك التجارب، سيما وأن العلاقة بين بكين وبيونج يانج علاقة عضوية بالفعل، والصين هي المستورد الرئيسي للفحم من كوريا الشمالية، وهي موردها الأول من الطاقة بشكل دوري، وفي كل الأحوال يمكن للصين اعتبار كوريا الشمالية خنجراً في الخاصرة الأميركية يخفف عنها عبء الصدام المتوقع بلاشك مع واشنطن، بدءاً من منطقة «بحر الجنوب»، وصولاً الى بقية أرجاء المحيط الهادي. موسكو بدورها والتي تعيش اليوم تدهوراً غير مسبوق في العلاقات مع واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة، يكاد المرء يستشعر من تصريحات رئيسها بوتين، أنه مشجع لأن تمضي كوريا الشمالية في برنامجها لاسيما عندما صرح ان الشعب هناك عنده استعداد لان يأكل الاعشاب ولا يتنازل أبدا عن برنامجه النووي. يتساءل العالم لماذا أميركا قلقة من امتلاك بيونج يانج صواريخ باليستية أو قنابل نووية؟ وهل هي مهددة بالفعل؟ الجواب عند «مارك هيرتلينج» المحلل العسكري لشبكة ‏ CNN? ? ?هو ?أن ?لا ?تهديد ?في ?الحال، ?وأن ?واشنطن ?لاتزال ?تسيطر ?على ?زمام ?الامور ?في ?الأوقات ?الراهنة ?حيث ?توجد ?أنظمة ?صواريخ «ثاد» ?و«إيجيس» ?في ?كل ?من ?كوريا ?الجنوبية ?واليابان، ?والتي ?بمقدورها ?اعتراض ?الصواريخ ?الكورية ?الشمالية. اذن لماذا تملأ واشنطن الدنيا صياحاً وصخباً؟ بعض الاوراق الخفية التي نتحدث عنها تميط اللثام عما يجري، ذلك أن ازمة كوريا الشمالية الأخيرة تقدم للولايات المتحدة فرصة ذهبية على صعيدين: الصعيد الأول: تمكن واشنطن من نشر المزيد من وسائلها الدفاعية في الدول الحليفة لها في آسيا، لاسيما في سيول وطوكيو وقد تحدث ترامب بالفعل عن زيادة أوزان رؤوس الصواريخ الموجودة في كوريا الجنوبية وهناك أحاديث من طرف خفي عن إعادة نشر بعض الرؤوس النووية التكتيكية المحملة على صواريخ في قواعدها هناك، الأمر الذي يخل بداية بتوازنات الردع النووي في آسيا، ويمكن لواشنطن في منازعاتها المقبلة المحتملة عسكرياً مع الصين بنوع خاص. الصعيد الثاني: إن الازمة تلائم عقلية الرئيس ترامب صانع الصفقات، إذ لم تمض أيام قليلة على التجربة الأخيرة لبيونج يانج إلا وقد استمعنا لترامب، وهو يعلن عن موافقته على بيع أسلحة متقدمة لليابان وكوريا الجنوبية بمليارات الدولارات بحجة تمكينهما من الدفاع عن نفسيهما. أزمة كوريا الشمالية لايمكن فصلها بحال من الأحوال عن الرؤية الاستراتيجية الأوسع للولايات المتحدة الأميركية تجاه آسيا، ورغم أن خيارات واشنطن العسكرية تكاد تكون معدومة، إلا في حال بادر السيد «كيم أون» وفي لحظة جنونية بالاعتداء على أي من حلفاء واشنطن، أو قواعدها بالقرب من المحيط الهادي، إلا أن مكاسب واشنطن الخفية حكماً تتمحور حول إعادة الأسلحة النووية من جديد لكوريا الجنوبية، بعد أن كانت قد سحبتها قبل 25 عاماً. على أن أمراً آخر مهماً ومثيراً في هذه الأزمة، ويتصل اتصالاً مباشراً بالشرق الأوسط والخليج العربي وهو النظر إلى نظام «بيونج يانج» نظرة تقدير إن لم تكن إعجاباً من قبل أنظمة بعينها رأت أن واشنطن تقف اليوم عاجزة عن التعاطي مع فتى كوريا الشمالية بسبب امتلاكه سلاح التدمير الشامل في حين غزت واشنطن العراق وبعدها ليبيا واعدمت زعيميهما بسبب شكوك نووية لم ترقَ أبداً لمستوى الحقائق أو التجارب. تجارب كوريا الشمالية حكماً ستزخم دولة مثل إيران، التي تتلاعب بالاتفاق النووي مع واشنطن والدول الست، ولا تكف عن تجاربها الصاروخية المستمرة ما يعني أن تبعات واستحقاقات الأزمة تتجاوز جغرافيتها إلى غيرها من دول العالم تجاوزاً سيئاً جداً. هل تغيرت قواعد اللعبة النووية الدولية بعد وصول بيونج يانج لعتبة السلاح النووي؟ مؤكد أنها انتهت ولم تتغير فقط. *كاتب مصري