من الصور النمطية الرائجة عن الأميركيين أنهم شعب لا يهتم كثيراً بما يجري خارج حدود بلاده، بل ربما حتى خارج حدود الولاية التي يعيش فيها. فكرة ربما لا تخلو من بعض المبالغة والتهويل، شأنها في ذلك شأن كثير من الصور النمطية الشائعة عن الشعوب والبلدان. غير أنه في حالة الولايات المتحدة، على الأقل، قد لا تكون هذه الصورة مخالفة للواقع كثيراً، على الأقل هذا ما يؤكده كتاب «ملاحظات حول بلد أجنبي: أميركية في الخارج في عالم ما بعد القوة الأميركية» لمؤلفته سوزي هانسن. هذه الصورة الشائعة عن الأميركيين، وبغض النظر عن مدى دقتها، تستمد مبرراتها من عوامل عديدة تشمل بُعد الولايات المتحدة الجغرافي، ومساحتها الشاسعة، وقوتها وريادتها العالميتين في كثير من المجالات لدرجة تجعلها في أعين عدد من الأميركيين «مركزَ الكون» في وقت تكتفي فيه بقية بلدان العالم بدور تفاصيل صغيرة تشكّل خلفية المشهد الذي تهيمن عليه أميركا. هذه النظرة التي يحملها الأميركيون عن أنفسهم وعن بلدهم تكرّست مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، والذي كان يمثل منافساً رئيسياً للولايات المتحدة على الساحة الدولية، حيث بدا حينها أن القيم التي تروّج لها وتدافع عنها قد انتصرت ومصيرها اكتساح العالم. في هذه الظروف، وُلدت وترعرعت الكاتبة والصحافية الأميركية سوزي هانسن في بلدة صغيرة بولاية نيوجيرزي الأميركية. هذه الأخيرة تحكي كيف أن «كل تجربتها كانت داخلية، محلية، أميركية» تفتقر لأي «وعي بكون أميركا مجرد بلد واحد على كوكب يضم الكثير من البلدان الأخرى». غير أنه في 2007، أتيحت لهانسن فرصة الذهاب إلى تركيا في إطار برنامج دراسي تابع لـ«معهد شؤون العالم الراهنة» في واشنطن للقيام ببحوث حول التيارات السياسية في العالم الإسلامي. المنحة كان قد أسّسها في عشرينيات القرن العشرين تشارلز كراين، الذي ورث ثروة كبيرة في شيكاغو وتحسّر لكون «الأميركيين، وخاصة صناع السياسات، لا يعرفون ما يكفي عن بقية العالم». وفي الصفحات الأولى من كتابها، تروي هانسن تفاصيل حوارٍ جمعها بعراقي في 2012. فعندما سألته: «كيف كان حال العراق في الثمانينيات والتسعينيات»، أجاب: «أنني أصاب دائماً بالذهول عندما يسألني الأميركيون هذا السؤال إذ كيف لا تعرفون شيئاً عنا في حين أن لكم علاقة كبيرة بما أضحى عليه حالنا؟». في كتاب «مذكرات حول بلد أجنبي»، تنخرط هانسن في عملية نقد ذاتي ومساءلة للذات كأميركية وتحث مواطنيها على فهم المؤثّرات التي تشكّل – وأحياناً تشوّه – فهمَهم وتصورهَم لدور بلدهم في العالم، غير أنها عملية صعبة وحافلة بالتحديات خاصة بالنسبة لمواطني «القوة العظمى»، الذين يميلون إلى افتراض أن قيم بلدهم كونيةٌ وأن النظام العالمي الذي أعلنته مقدس لا يُسمح بتغييره. هانسن تفرد حيزاً مهماً من كتابها لتحديد وانتقاد تصوراتها الخاطئة السابقة، ومما تقوله في هذا الصدد، مثلا، أنها كانت تتعامل مع تركيا في البداية «مثل عيّنة أستطيعُ وضعها تحت المجهر»، وتقييم تطوّرها وفق التصورات الغربية للتحديث. واللافت هنا أنه كلما تقدّمت في الحكي حول تجاربها واكتشافاتها ومشاهداتها في أسطنبول، حيث تعيش الآن، وأثينا والقاهرة وطهران، كلما انتاب المرءَ شعورٌ بأن تأملاتها تلك تمثّل تمرينا في اكتشاف تحيزاتها العفوية السابقة بقدر ما تمثل تمرينا في توعية وتنوير قرّائها الأميركيين بشأن كثير من الأفكار المغلوطة التي لديهم حول العالم وبلدهم. وفي هذا السياق، تعترف هانسن بأنها «تبنت فكرة» دونية الشرق «من دون شعور»، مشيرةً إلى «إيمان قوي وراسخ، وربما لا واعٍ» بـ«نمط العيش الغربي» لأميركا الذي رافقها خلال أسفارها. ورغم كل التجرد الذي يعتقد الأميركيون أنهم يستطيعون أن يقيِّموا به أعمال بلدهم، فإن هانسن تَعتبر أن «ذهناً أميركياً موضوعياً هو أولا وقبل كل شيء ذهنٌ أميركي». ومع التحديات الكثيرة التي بات يواجهها نظام ما بعد الحرب الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ومع التساؤلات المتزايدة من قبل حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين بشأن سمعة أميركا كنموذج وقدوة للعالم في الانفتاح والتعددية، فلا شك أن دعوة هانسن للأميركيين إلى فهم كيف ينظر الآخرون إليهم وإلى سياسات بلدهم، لديها ما يبررها وتأتي في وقت مناسب. ولئن كان كتاب «ملاحظات حول بلد أجنبي» يفتح عيني القارئ على سلبيات كثيرة في نظرة الأميركيين عن أنفسهم والعالم، فإن خيبات الأمل العديدة التي تسردها هانسن إزاء الولايات المتحدة قد لا تخلو من فوائد، على اعتبار أن ذلك يعكس أنه ما زال ثمة أمل في قوة النموذج الأميركي. محمد وقيف الكتاب: ملاحظات حول بلد أجنبي.. أميركية بالخارج في عالم ما بعد القوة الأميركية المؤلفة: سوزي هانسن الناشر: فرار، ستراوس آند جيرو تاريخ النشر: 2017