خلال الأيام الأخيرة من شهر أغسطس المنصرم، تعرضت اثنتان من أكبر مدن العالم، هما هوستن الأميركية ومومباي الهندية، لتساقطات مطرية طوفانية وفيضانات، تسبب فيها إعصار هارفي في الولايات المتحدة وأمطار «المانسون» السنوي في جنوب آسيا. ولئن كانت خسارة الأرواح أمرا مأساويا، إلا أنها لم تكن غير مألوفة في مثل هذه الفيضانات. لكن الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية، والزراعة، وتربية المواشي، والمصانع، والمرافق الصناعية، والمنازل، والأملاك على اختلافها.. كانت غير مسبوقة. منطقة هوستن الكبرى تمتد على مساحة تناهز 26 ألف كيلومتر مربع، ما يجعلها أكبر مساحة من ولاية نيوجيرزي، ويبلغ عدد سكانها 6.4 مليون نسمة، وتضم أكبر عدد من مصافي النفط في الولايات المتحدة. معظم الناس فيها يتنقلون بوساطة السيارة، وتشير التقديرات إلى أن نحو مليون مركبة دُمرت في العواصف التي ضربت المنطقة. أما منطقة مومباي الكبرى، فتغطي مساحة أقل (4600 كيلومتر مربع)، لكنها تأوي عدداً ضخماً من السكان يناهز الـ 20 مليون نسمة. وعلى نحو لا مناص منه، انطلق نقاشٌ حول الدور الذي قد يكون لعبه الاحتباس الحراري، أو تغير المناخ، في زيادة شدة هذه العواصف الصيفية، حيث يحاجج المشكِّكون بأنه لا يوجد دليل مباشر يربط بين هذه الأحداث. ذلك أن الأعاصير مثل هارفي تحدث مرة كل ألف سنة، وهي قد حدثت في الماضي وستحدث في المستقبل. وعلاوة على ذلك، فإن علم تغير المناخ يظل غير أكيد، وربط هذا التغير بالسلوك البشري لم يتم إثباته علمياً بعد. والواقع أن معظم الخبراء الذين يؤمنون بأن تغير المناخ الذي يحدث بسبب البشر حقيقةٌ يتفقون على أن ربط الظاهرة بأحداث مناخية معينة أمرٌ إشكالي. لكنهم يحاججون بأن ارتفاع حرارة مياه البحار، الذي يُعد حقيقة علمية، يمكن أن يكون له تأثيران على طبيعة العواصف الأخيرة وخصائصها. فأولا، المياه الأكثر دفئاً في المحيطات توفّر طاقة أكبر لتقوية العواصف أثناء مرورها عبر الأجسام المائية الكبيرة. وثانياً، بسبب ازدياد دفء المحيطات، يتم خلق رطوبة أكبر في العواصف، ما يزيد من كمية الأمطار التي تحملها عندما تصل إلى اليابسة. وبغض النظر عن المعطيات العلمية، فإن الأضرار التي تتسبب فيها هذه العواصف توفّر أدلة قوية على ضعف وهشاشة المدن الحديثة أمام التساقطات المطرية المفرطة، لاسيما بالنسبة لمدن مثل هوستن وموباي المعروفتين بافتقارهما لمعايير صارمة بخصوص تخطيط المدينة تفرض قيوداً بخصوص الأماكن التي يُسمح بالبناء فيها والأماكن التي يمنع فيها ذلك. فعلى مدى العقود والسنوات الأخيرة، سمحت المدينتان بتوسيع التطوير العقاري على نطاق واسع جدا، وهو ما كان من نتائجه إزالة المجاري المائية الطبيعية التي كانت تمتص التساقطات المطرية الفائضة في الماضي. ونتيجة لذلك، بات للفيضانات التي تَنتج عن عواصف شديدة تأثيرٌ ضار على نحو متزايد على المدن، هذا علماً بأن قلة قليلة من سكان تلك المدن لديهم تأمينات تغطي حالات الفيضانات وسيضطرون للاعتماد على ولاياتهم والحكومات الفدرالية من أجل إنقاذهم. بيد أن التكاليف المرتفعة لإعادة بناء المدن بعد العواصف الشديدة تقابلها تكاليف مرتفعة أخرى لاتخاذ التدابير اللازمة من أجل حماية المدن من العواصف التي قد تحدث في المستقبل. ويكتسي هذان الموضوعان أهمية سياسية كبرى، وخاصة بالنظر إلى الأعباء المالية الأخرى على الحكومات، مثل الرعاية الصحية، والنقل، والأمن الوطني، والتعليم، وغيرها من المجالات، بما في ذلك إمدادات الطاقة والبحث والتطوير. التأثير الوحيد لتغير المناخ الذي بدأ حتى المشكِّكون يعترفون بأنه حقيقة هو الارتفاع التدريجي والقابل للقياس في مستويات البحار والذي يهدِّد كل المناطق الساحلية عبر العالم. وقد استثمرت بعض المدن في أوروبا مثل لندن وروتردام، منذ بعض الوقت، مليارات الدولارات في مشاريع لتعزيز البنى التحتية للمدينة وحمايتها من الفيضانات. وتشمل إنشاءَ حواجز هيدروليكية يمكن رفعها أو خفضها تبعا لمستوى تهديدات الفيضانات وسدود وحواجز اسمنتية دائمة. هذه الطرق يمكن استعمالها لحماية مدينة نيويورك والبندقية والمدن الرئيسية في الخليج وجنوب وشرق آسيا، ولكن التكاليف ستكون مرتفعة والبلدان الغنية فقط ستكون قادرة على دفعها. ومن جهة أخرى، تواجه بعض المدن المهدَّدة، مثل ميامي، مهمةً شبه مستحيلة على اعتبار أنها مبنية على صخور كلسية، وهي صخور منفذة ستسمح بحدوث الفيضانات حتى في حال إقامة حواجز على السواحل. والأرجح أن أمطار أغسطس ستزيد من الأسباب التي تدعو لمضاعفة الجهود من أجل التخفيف من حدة الفيضانات عبر العالم، غير أن مسألة ما إن كانت النخب السياسية مستعدةً لدفع تكاليف حماية المدن ستظل موضع شك.