ما يحدث في موريتانيا من حراك متعدد الأوجه والمجالات جدير بالمتابعة، وهو في«نكهته» وتبعاته مختلف عن كل ما نراه من تطورات في الساحات العربية الأخرى، خاصة قي المجال السياسي، ويحمل مخاوف من المستقبل الذي ستؤول إليه البلاد، والحديث هنا لا يخص الممارسة الديمقراطية من عدمها، ولكنه يعني بالأساس الميراث السياسي للدولة الموريتانية مؤسسات دستورية، مبادئ وقوانين، علاقة الدولة بمؤسساتها من جهة وعلاقتها بالشعب وبالأحزاب، موالاة ومعارضة، من جهة ثانية، مباني ومراكز تمثّل قيما ورؤى، وتبوأت مكانا في ذاكرة الزمن الموريتاني، والعالمي أيضا. الميراث السياسي الموريتاني اليوم مهدد بالانقراض، ظاهره المُمارسة الديمقراطية، طبقاً لنتائج استفتاء أجري في بداية الشهر الماضي(7 أغسطس) شارك فيه الناخبون بنسبة قاربت 54%، صوّت 85% منهم لصالح التعديلات الدستورية، التي تبنَّاها الرئيس محمد ولد عبدالعزيز، المتمثلة في إلغاء مجلس الشيوخ وتغيير العلم الوطني، وهو ما اعتبره المراقبون نصراً مؤزراً للرئيس.. فهل هو فعلا كذلك؟ لا يمكن إثبات أو نفي نصر الرئيس الموريتاني إلا بالعودة إلى الظروف التي نشأ فيها مجلس الشيوخ، والأدوار التي أدَّاها من أجل حماية الديمقراطية في البلاد، فقد ظلَّ حامياً للدولة في ظل الهزات الكبرى على مدار ربع قرن(منذ أبريل 1992)، سواء من خلال عمله المؤسساتي، أو من خلال دور أعضائه الفاعلين، والبالغ عددهم 56 عضواً، 53 منهم يمثلون الأقاليم، يتمُّ انتخابهم بالاقتراع العام غير المباشر، وثلاثة منهم يتم تعيينهم لتمثيل الموريتانيين المقيمين في الخارج، كما كان له حضور في كل المحطات الكبرى، من ذلك: انقلاب أغسطس 2005 بقيادة العقيد علي ولد محمد فال، الذي أطاح بالرئيس معاوية ولد الطايع، وتعديل الدستور في يونيو 2006، والانتخابات التشريعية في نوفمبر 2006، وانتخابات مجلس الشيوخ في فبراير 2007، وانقلاب الرئيس محمد ولد عبد العزيز عام 2008، وانتخابه رئيساً لمدة خمس سنوات عام 2009، ثم انتخابه لفترة رئاسية ثانية عام 2014. بالاستناد إلى مواقف مجلس الشيوخ الموريتاني من الأحداث السياسية، فإن حَلَّه بموجب التعديلات الدستورية من خلال الاستفتاء الشعبي، لا يُعدًّ في نظر المراقبين نصراً للرئيس ولد عبد العزيز، بقدر ما يُمثِّل انتقاماً من رفض مجلس الشيوخ، اقتراحاته بشأن تعديل الدستور في مارس الماضي، ويذهبون إلى تأكيد موقفه الانتقامي من التحضير لهدم مقر مجلس الشيوخ وتشييد نصب «الجندي المجهول» في الساحة التي ستحمل اسم «ساحة المقاومة»، بينما سيلحق جزء كبير منها بالحيز الترابي للقصر الرئاسي، وسينتج عن هذا تغيير ملامح العاصمة نواكشوط. غضب الرئيس الموريتاني من مجلس الشيوخ، يماثل مع الفارق غضبه من وجود السفارة الإسرائيلية في بلاده، جاء ذلك في مقال كتبه «الربيع أدوم» حمل عنوان: «مصير سيئ ينتظر الشيوخ»(نشر في موقع آفاق الموريتاني بتاريخ 16 أغسطس الماضي)، ذكر أنه:«في عام 2009 أظهر الرئيس الموريتاني غضباً على سفارة إسرائيل في نواكشوط لينهي تلك العلاقات المشينة ويأمر الجرافات بهدم مقر السفارة وإنهاء تواجدها للأبد في خطوة رمزية لاقت الاستحسان لدى الموريتانيين الذين تاقوا لطرد سفارة الكيان الصهيوني المغتصب للأرض الفلسطينية.. يقولون إن الرئيس سيعمل على محو أعضاء مجلس الشيوخ من الخريطة السياسية أولاً، ثم لاحقاً سيقوم بمحو بنايتهم إن أمكن ليتأكد أنهم لن يعودوا إليها ولو من باب الرمزية». قد يكون للرئيس الموريتاني تحفظاته ونقده لأداء أعضاء مجلس الشيوخ، لكن هذا أمر يختلف على تغييب مؤسسة دستورية، وهدم مقرها، وهي تمثل نوعاً من الحماية للديمقراطية، ولا نملك بكل حزن على ما يحدث في دولنا العربية إلا القول: وداعاً مجلس الشيوخ الموريتاني.. ووداعاً أحلامنا القومية في تعديل سلوكنا السياسي، حُكَّاماً ومحكومين.