فجأةً، نقاش محموم في العلمانية، كأنها إعصار داهم، أو قرار دولي ملزم تحت البند السابع للأمم المتحدة. ولكن النقاش مفتوح منذ زمن يتجاوز المئة عام، منذ أوائل ما سمّي عصر النهضة العربية، التي لا يزال الخلاف قائماً في شأنها، إذ رآها الإسلاميون أسلمةً والليبراليون لبرلةً وإلا فلا نهضة، وفي ما بعد رآها العروبيون قومية، وقبلهم وبعدهم رآها «الإخوان» ثم «الدواعش» خلافةً وإلا فلا نهضة أيضاً. كان هذا السجال فكرياً لعقود طويلة، وعلى رغم كل الاجتهادات لم يسفر عن اتفاق ولا عن توافق ينعكس على المجتمعات، إلى أن تحوّل مع جماعات العنف والتطرّف اشتباكاً دموياً مع تفسيراتٍ شتى لا تبرّر الجرائم التي ارتكبتها. سيتواصل الجدل من دون نهاية، ولا ضير في ذلك، ولكن لا بدّ من نهاية قريبة للعنف الذي بلغ أرقاماً قياسية في إزهاق الأرواح وكانت ذروة «انتصاراته» في تدمير كل تراث إسلامي أو غير إسلامي وقع تحت يده والتسبّب بدمار كبرى المدن والحواضر التي مثّلت كل ما هو حضاري وإيجابي في الإسلام من عمران وفنون وتعايش بين أبناء الديانات كافةً. واقعياً، ليست العلمانية مصدر الانقسامات والشقاق في المجتمعات العربية خصوصاً والمسلمة عموماً، وهي ليست مشكلة عربية أو إسلامية، ولا هي السبب في ما يعيشه العرب والمسلمون من إخفاقات وإحباطات. ولذا يحسن التذكير بأمرين: أولهما أن العلمانية لا يمكن أن تُفرض فرضاً كلّياً فهي في تركيا الأتاتوركية، مثلاً، لم تستطع إلغاء الإسلام، على رغم فظاظتها. والآخر أن سوء تطبيق الإسلام لا يمكن أن يُعزى إلى العلمانية، بالأخص في المجتمعات التي بقيت بمنأى عنها. يعيش معظم الدول المسلمة في ظل قوانين وضعية روعيت فيها الشريعة وروحها، حتى عندما عمد بعضها إلى اقتباس قوانين دول غربية أو استنساخها. لا مشكلة في ذلك، بل من الطبيعي أن تتبادل الدول الدروس من تجاربها. وكانت دول الغرب ودويلاته تحاربت في ما بينها وعاشت صراعات داخلية قبل أن تشكّل كيانات موحّدة وتعي ضرورات الإصلاح في كل المجالات، بما في ذلك الديني الذي كان أفضى لديها إلى فصل الدين عن الدولة، مقنّناً سلطة رجال الدين، ولولا ذلك ما استطاعت هذه الدول أن تحقق المصالحة الواجبة بين الحكم والشعب، بل لما استطاعت أن تتوصل إلى الاعتراف بالمواطنة التي لا معنى لها سوى المساواة بين الجميع أمام القانون. هل كان ذلك من تطبيقات العلمانية؟ فليكن. وهل أدّى إلى انتفاء الدين؟ بالطبع لا. لعل الأهم أنه لم يقضِ على القيم الدينية والأخلاقية التي تسود علاقة الإنسان بالإنسان. فخلافاً لعدد محدود من الدول الغربية المصنّفة «علمانية» لكنها اشتراكية سابقاً كان تعامل معظم الدول مع موجات اللاجئين، وغالبيتهم من المسلمين، مثل تعامل بعض الدول الإسلامية وليس كلّها، بل لعله كان أحياناً أفضل. هل تفوّق الغرب لأنه علماني- ليبرالي، أي لأنه فصل الدين عن الدولة، فحسب؟ المؤكّد أنه استطاع أن يبني دولاً قائمة على القانون للجميع وفوق الجميع. هناك شبه إجماع الآن على القول، مثلاً، إن العنوان الرئيس لمشكلة العالم العربي الراهن هو «الدولة»، أو لنقل «الدول»، فمنها ما تماسك وأمكنه المحافظة على تماسك المجتمع لكنه يُظهر وعياً متفاوتاً بحتمية الإصلاح وشموليته، ولكن منها أيضاً ما انهار إذ أدركته فوضى «الربيع العربي» وساهم صعود ما سمّي «الإسلام السياسي» في مفاقمة هذا الانهيار وإفضائه إلى أوضاع «ما قبل دولتية» كما يوصّفها العلمانيون، أو إلى ما اعتاد الإسلاميون المؤدلجون وسْمه بـ«الجاهلية»، باعتبار أن «إسلامهم» وحده يملك الوصفة السحرية لما بعد الجاهلية. يبقى أن أكثر الأنظمة استبداداً هي تلك التي توصف تجاوزاً بـ«العلمانية» لمجرّد أنها ليست قائمة أيديولوجياً على الدين. هذه حال النظام البعثي في سوريا الذي يقول دستوره الأخير، إن «دين رئيس الجمهورية هو الإسلام» وإن «الفقه الإسلامي مصدر رئيس للتشريع»، ومع ذلك أمكن للعالم أن يشهد في سوريا أحد أسوأ أنماط الحكم.