إذا كانت السياسة حرباً من دون قتال أو معركة من دون سيف، فإلى أي مدى يمكن أن توجهها المبادئ؟، وإلى أي حد يمكن أن تسود القوة الأخلاقية العلاقات الدولية، وأن تساير السياسة المبادئ والمثل الإنسانية؟ يرى الكثيرون أن السياسة «صراع مصالح»، يرتدي زي تنازع مبادئ، فيما يقلل آخرون من تأثير المصلحية والانتهازية عن السياسة، ويؤكدون ارتباطها في نهاية الأمر بالقيم الأخلاقية البشرية.. ويطول الجدال! خصصت دورية «السياسة الدولية»، يوليو 2017، عدة مقالات للحديث عن «القوة الأخلاقية في العلاقات الدولية». وبخاصة مع هذا الحضور القوي للجوانب الأخلاقية في الثقافة الدولية، ومع «انتقال النقاشات خلال العقود الثلاثة الماضية، من قضايا ذات صبغة واقعية، مثل الحروب، والردع النووي، وموازين القوى العالمية وأنساقها»، كما يقول الباحث د. خالد علي، «إلى قضايا أخرى ذات طابع أخلاقي، مثل المساواة، والعدالة العالمية وحقوق الإنسان، والتدخل الإنساني وغيرها. فبدا أن الحكومات لا يمكن أن تكون مطلقة اليد في انتهاك حقوق الإنسان، وإلا تعرضت لآليات عقابية، ذات طابع رمزي وأخلاقي عالمي، وعاد النقاش مجدداً حول أفكار الحرب العادلة لتوماس الأكويني». غير أن هذا المنحى الإنساني واجه إشكاليات عدة وفجوات بين الممكن والمطلوب، والدوافع الأخلاقية المعلنة والأجندات الخفية. بل إن الخطاب الأخلاقي - الحقوقي للقوى الغربية الكبرى، يضيف د. خالد علي، «شابه نكوص وارتداد على أرض الواقع، مثلما برز جلياً في سياسات تلك القوى ازاء ظاهرة تدفق اللاجئين من مناطق الصراعات العربية بعد ثورات 2011». ويشكك د. علي في واقعية سعي الاتحاد الأوروبي في فرض «نموذج ديمقراطي أو اقتصادي رأسمالي على بيئات محلية في دول الجنوب لا تتناسب معه، أو حتى تتصادم معه أخلاقياً». ولكن متى سيلتحق «العالم الثالث» بالبلدان المتقدمة؟ ومتى ستتعلم هذه الدول «صيد السمك» إن اكتفت البلدان المتقدمة والثرية بالمساعدات الغذائية؟ القوة والأخلاق، يقول باحث آخر، د. جلال معوض، تبدوان ظاهرياً غير قابلتين للجمع معاً في مفهوم واحد، غير «أن القوة لا تعني بالضرورة ممارسة الإكراه المادي، وإنما قد تشمل صوراً رمزية أو معنوية لممارسة القوة، وقد تكون بالتعاون مع الآخرين بهدف تحقيق مصالح مشتركة». ويشير إلى اتجاهين في تحديد المعايير الأخلاقية في هذا المجال. الاتجاه النفعي القائم على خواتم الأمور أي، حيث تتحدد أخلاقية الفعل على آثاره ونتائجه وتداعياته ومدى الخير الذي يحققه للفاعل والآخرين. والاتجاه الثاني، فهو «أخلاق الواجب»، أي علم الواجب أو الالتزام باللغة اليونانية. وتدرس الباحثة «رغدة البهي» موضوعاً مثيراً للجدل، وهو «الشرعنة الأخلاقية للقوة العسكرية»، وتختال «الحرب العادلة نموذجاً».. فما هي هذه «الحرب العادلة»؟ تتكون نظرية الحرب العادلة في تحليل «رغدة البهي» من جزءين تشمل ماهيتها ووسائل إدارتها، ولها ستة شروط هي السبب العادل أو القضية القائمة على الدفاع الشرعي والرد على العدوان. وقد «تمت توسعة هذا الشرط أو المبدأ ليشمل الدفاع عن الدول الأخرى، وحماية الضحايا المحتملين، ومساعدة الانفصاليين وشن الضربات الاستباقية ضد المعتدين المحتملين». ثاني شروط الحرب العادلة «السلطة الشرعية» التي تشنها. ولكن «على مدى السنوات القليلة الماضية، تحولت السلطة الشرعية من سلطة الدولة المنفردة إلى الإرادة الجماعية، وهو ما يسوغ الحروب الثورية ومحاربة الاستغلال وحروب التحرر الوطني». ثالث هذه الشروط، «النية الصحيحة الرامية إلى تصحيح خطأ العدوان وإحلال السلام» لا الانتقام أو الهيمنة. والرابع أن تشن الحرب كملجأ أخير، وبعد استنفاد جميع سبل إدارة الصراع لتجنب الحرب. والشرط الخامس، ألا تندلع الحرب إلا إذا تولد عنها سلام دائم. وأخيراً، التناسب بين المكاسب المتوقعة والضرر المتكبد. بذل علماء السياسة جهوداً ملحوظة في دراسة «الحرب العادلة»، وتعددت النظريات. فالنظرية الليبرالية تسوغ الحرب في سبيل إسقاط الديكتاتوريات، كما يمكن تسويغ استخدام القوة من أجل حماية الديمقراطية. فالحروب التي تشنها الدول الديمقراطية لا تهدف للسيطرة على الإقليم، لكنها تهدف لنشر قيم عالمية كتحرير الجنس البشري أو حماية حقوق الإنسان أو للحفاظ على مبادئ عالمية مثل الديمقراطية. ويمكن للدول - وفقاً لليبرالية - أن تشن الحرب ضد الهجمات الإرهابية، وثمة نقاش وتفاصيل وأخذ ورد بين معارضي الليبراليين ومؤيديهم كما هو متوقع. ثاني الآراء في مجال «الحرب العادلة» هي النظرية النقدية. و«تركز النظرية النقدية على السلام العالمي، وتحرير الجنس البشري، إلا أنها تسوغ الحرب، ما دامت شُنت من قبل أناس مقموعين ضد قامعيهم. ففي تلك الحالة تصبح الحرب أمراً إيجابياً، لأنها تسهم في كسر وتحطيم هياكل سياسية قمعية». ويندرج تحت هذه الحروب تقول الباحثة «رغدة البهي»، حروب التحرر الوطني والحروب الثورية والصراع الدائر بين النخبة والعامة داخل الدول أو خارجها. 3- ثالث الآراء، ما تسميها الباحثة «النظرية البنائية الاجتماعية»، فأي تفسير للحرب لا بد أن يأخذ في حسبانه «الهوية» التي تفسر سلوك الدولة. «فعلى سبيل المثال»، تقول الباحثة، «كان إدراك الولايات المتحدة الأميركية على أنها الدولة الليبرالية المحررة التي تسعى لنشر الديمقراطية أحد مسوغات غزوها لأفغانستان عام 2001 والعراق 2003»، حيث ترى النظرية البنائية «أن الطريقة التي يدرك بها قادة الدول أنفسهم والعالم من حولهم تسهم في فهم السياسات التي يتخذونها». وسنرى أن اختلاف الرؤى يستمر إلى أبعد من هذا! *كاتب ومفكر- الكويت