«مسجد قرطبة الكاتدرائي» هذا هو الاسم الرسمي الذي يُطلق الآن على «مسجد قرطبة»، وهو من أكبر المساجد في العالم وأروعها، أنشأه في عام 786 للميلاد الخليفة عبد الرحمن الداخل، مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. وعندما ندخل الفناء الخارجي للمسجد تقابلنا أشجار البرتقال، كما زرعها العرب، ومكان الوضوء الكبير، وبرج الكاتدرائية الذي أمر ببنائه فوق منارة المسجد الإمبراطور «شارلس الخامس». وسيندم الإمبراطور، الذي كان يحكم نصف أوروبا في القرن السادس عشر، على قراره، ويقول لمن طلبوا الإذن ببنائه: «لقد بنيتم ما كنتم أو غيركم سيبنونه في أيّ مكان، لكنكم دَمّرتم شيئاً كان فريداً في العالم». هذه الحادثة لم أتوقع أن يرويها «جواكيم فرنانديز»، المرشد السياحي الإسباني الرسمي داخل «مسجد قرطبة». وجهدتُ كي أتماسك بدنياً وعاطفياً وأنا أتابع «فرنانديز» في أزقة وباحات «قرطبة»، ومنازلها الأندلسية، وقلاعها وأطلالها وأرودُ أبهاء «المزجويتا»، كما يُسّمى «مسجد قرطبة» بالإسبانية، والذي تبلغ مساحته 24 ألف متر مربع. وتشحبُ الإضافات الباذخة غير الإسلامية لـ«المسجد» أمام بهاء قناطره الأصلية العملاقة، و«غابة الأعمدة» التي يبلغ عددها 856 عموداً مصنوعة من «اليشب» و«العقيق» و«الرخام» و«الجرانيت». وعندما نتعرف على تفاعلات وتقاطعات الأديان في «مسجد قرطبة»، نتذكر أن السيد المسيح وأمه مريم عليهما السلام ولدا وعاشا في المنطقة العربية، فنبكي على حال الآخرين وحالنا. وفي «إيميل» بعثتُه إلى «فرنانديز» قلتُ: «أنت تجعلنا نعيد التفكير بالعالم، وننظر إليه بروح أعمق من التسامح، أُسّميه بالأحرى الحب». وهل غير الحب العربي الإسباني المشبوب أطلق في الأندلس رقصة «الفلامينكو» التي يهزُّ الراقصون بها الأرض هزّاً؟ و«الحب، أعزّك الله، أوله هزل وآخره جدُ»، هكذا يستهل «ابن حزم» حديثه في كتابه «طوق الحمامة» عن «ماهية الحب»، الذي «دَقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلاّ بالمعاناة، وليس بمنكَر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزَ وجل». عنوان الكتاب «طوق الحمامة» وعنوانه الإضافي «في الألفة والآلاف»، وهو موسوعة شيقة عن الحياة في «قرطبة»، وصراعاتها السياسية والفكرية والغرامية، وسيرة ملوكها، وزعمائها، ومفكريها، وفلاسفتها، وأدبائها، وحسناواتها، يرويها «ابن حزم» شعراً ونثراً. وأجمل ما في الكتاب، «فيزياء» الحب، الذي يقول عنه «ابن حزم» إن «نفس المحب متخلصة عالمة بمكان ما كان يشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدة إليه، باحثة عنه، مشتهية لملاقاته، جاذبة له لو أمكن كالمغناطيس والحديد». ومؤلفات «ابن حزم» 400 مجلد و80 ألف صفحة، في الدين، والفكر، والعلم، وهو من أوائل من قال «البراهين قد صَحّت بأن الأرض كروية»، واستشهَدَ بقوله تعالى «خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ». وعندما نقرأ «ابن حزم» نتعرف على أحداث وأشخاص وأسرار «قرطبة»، جوهرة الحضارة الإنسانية، وندرك لماذا تخلّى عن الرئاسة، وهي أعلى مناصب الحكومة، وسُجن، وحُجزت أمواله. فسطوة الجاه والثراء لا ترقى إلى حيوات مبدعة عاشها كشاعر، وكاتب، وعالم بالطب والنفس والفلك، وفيلسوف وفقيه وسياسي ومؤرخ، وقبل وبعد كل شيء كعاشق. ونشأ «ابن حزم» في أحضان جواري القصر في «قرطبة»، شقراوات وسمراوات من عِلية أمم الأرض. «ولقد شاهدتُ النساءَ، وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني رُبيتُ في حجورهن، ونشأتُ بين أيديهن، ولم أعرف غيرَهنَّ، ولا جالستُ الرجالَ إلاّ وأنا في حدّ الشباب، وهنّ علمنني القرآن، ورؤينني كثيراً من الأشعار، ودَّربنني في الخط، ولم يكن وكدي وإعمالُ ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جداً إلاّ تعرُّف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وأنا لا أنسى شيئاً مما أراه منهن».