هدأت الأزمة الكورية بعد أن تصاعدت إلى مستوى تجاوز السقف المعتاد الذي ينتهي عنده التصعيد المتبادل بين بيونغ يانغ وواشنطن. تبادل الطرفان هذه المرة التهديد بعمل عسكري مُحدَّد ومعلنة خطته للمرة الأولى، عقب إجراء كوريا الشمالية تجربتين صاروخيتين جديدتين يومي 4 و28 يوليو الماضي. أخذت بيونغ يانغ التصعيد إلى مستوى جديد عندما أعلن قائد جيشها في 12 أغسطس الجاري أنه سيعرض على الرئيس «كيم يونغ-أون» خطة لإطلاق صاروخين من طراز «هواسونغ-12» قرب جزيرة جوام الأميركية غربي المحيط الهادئ، لتأكيد قدرتها على تقييد تحركات قوات الولايات المتحدة في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الكورية والمناطق المجاورة. وعلى الفور، نُقل عن مسؤولين أميركيين أن وزارة الدفاع أعدت خطة لتوجيه ضربات استباقية بوساطة قاذفات «بي-بي 1» ضد 24 هدفاً تشمل مواقع إطلاق الصواريخ والمنشآت الأساسية للبرنامج الصاروخي في كوريا الشمالية. وما أن بلغت التهديدات المتبادلة هذا المستوى المثير للقلق حتى اتجه الطرفان إلى التهدئة. فقد قرر الرئيس الكوري في 15 أغسطس تجميد خطة إطلاق الصواريخ قرب جزيرة جوام، ورأى الرئيس دونالد ترامب أنه قرار «حكيم ومعقول». لم تكن التهدئة مفاجئة لمن يعرفون أن حسم الأزمة الكورية الشمالية عسكرياً لا يقل صعوبة عن حلها سياسياً. فهذه أزمة تُصنَّف ضمن الصراعات الممتدة التي تستمر لعقود طويلة، وتستعصي على السلاح كما على السياسة. وتعود صعوبة حسمها عسكرياً إلى دقة التوازن في منطقة شمال شرق آسيا. فليس متصوراً أن تسمح روسيا والصين بعمل عسكري أميركي يمكن أن يترتب عليه نشوب فوضى على حدودهما، وقد يؤدي إلى أزمة لاجئين هائلة على نسق المأساة السورية، وربما يقود إلى انفلات الوضع، وفقدان السيطرة على الصواريخ. وإذا شمل العمل العسكري تدخلاً برياً انطلاقاً من القاعدة الأميركية في كوريا الجنوبية، فسيكون هذا كابوساً لكل من الدولتين، لأن قوات الولايات المتحدة ستصبح على حدودهما. وحتى إذا كان واضحاً من البداية أن وجود هذه القوات مؤقت بهدف توحيد الكوريتين، فهذا سيناريو مزعج لروسيا والصين. ويعيد هذا السيناريو، بالنسبة لروسيا، إنتاج تجربة توحيد ألمانيا التي جعلت الحلف الأطلسي على حدودها الغربية. ولذا ستبذل كل ما تستطيعه لكي لا يصل النفوذ الأميركي إلى حدودها الشرقية أيضاً. وفي تاريخ الأزمة الكورية الأولى التي نشبت عام 1950 ما يؤدي استذكاره إلى إدراك مدى الخطر الذي قد يتعرض له العالم في حالة إقدام واشنطن على عمل عسكري ضد كوريا الشمالية من دون تفاهم مع موسكو وبكين. فقد وجدت القوات الأميركية التي تغلغلت في كوريا الشمالية حينئذ نفسها في مواجهة القوات الصينية، فاضطرت واشنطن إلى سحب جنودها إلى أراضي كوريا الجنوبية، وإجراء مفاوضات أسفرت عن توقيع اتفاق الهدنة الذي مازال سارياً حتى الآن. وتدرك واشنطن جيداً صعوبة الحسم العسكري لهذه الأزمة، لكنها لا تقبل في الوقت نفسه ما تعتبره «مكافأة دولة مارقة» على نحو يمكن أن يُشجع دولاً أخرى على السعي للحصول على سلاح نووي. وفي الوقت الذي تمتنع واشنطن عن تقديم أي تنازل من أجل حل سياسي، ترفض بيونغ يانغ بدورها أية مساومة على برنامجها النووي الذي يؤدي وظيفة داخلية بمقدار ما هي إقليمية ودولية. فقد أصبح هذا البرنامج الأداة الرئيسية لتحقيق تعبئة داخلية يعتمد عليها النظام لتوطيد أركانه، ويستخدمها لتغطية أوضاع اقتصادية واجتماعية شديدة القسوة. لا تفيده المناورة كثيراً في تحسين هذه الأوضاع الناتجة عن انغلاقه الكامل، وغياب النشاط الاقتصادي الخاص والاستثمار الأجنبي الضروريين لتطوير أي اقتصاد يرزح تحت نير التخلف. ولذا لن يُحدث رفع العقوبات المفروضة عليه سوى أثر طفيف. كما أن نظام بيونغ يانغ يستفيد من التصعيد الأميركي ضده من وقت إلى آخر للمحافظة على التعبئة الداخلية التي تقوم على شعارات الدفاع عن الوطن. وحين يتعذر الحل السياسي والحسم العسكري لأية أزمة، لا يمكن التطلع إلى أكثر من محاولة إيجاد صيغة تتيح تهدئتها لفترة أطول. غير أن فرصة الوصول إلى مثل هذه الصيغة أفلتت مرة أخرى عندما رفضت واشنطن مقترحاً صينياً بإلغاء المناورات العسكرية، التي بدأتها مع كوريا الجنوبية في 21 أغسطس الجاري، مقابل وقف كوريا الشمالية إجراء تجارب صاروخية ونووية. ولذا لن تطول التهدئة الراهنة التي يتوقع أن تنتهي فور إقدام بيونغ يانغ على إجراء تجربة صاروخية جديدة.