طرح «إخوان الصَّفا» مسألة الميراث للجدل، في القرن العاشر الميلادي/الرَّابع الهجري، وببغداد، التي تحايل عليها أبناء القرن الواحد والعشرين، وكأن الزَّمن أخذ يجري معكوساً، ذلك وفق المادة(39) من دستور(2005)، التي ألغت قانون الأحوال الشَّخصية المجاري للعصر. بطبيعة الحال، لم يستطع «إخوان الصفا» الإشارة إلى أكثر مِن التَّنبيه إليها آنذاك، فقالوا: «إذا فكروا في حكم المواريث أن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فيرون أن الصَّواب كان أن يكون للأنثى حظ الذَّكرين، لأن النِّساء ضعفاء قلائل الحيلة في اكتساب المال» (الرِّسالة الخامسة في ماهية الإيمان). لكن بعد اكتساب المال يأتي التفكير بالمساواة. كذلك طرح الفقه الإمامي، ممثلاً بالشيخ المفيد(ت413هـ)، أو أقدم من ذلك، حجب البنت لإخوان وأقارب الأب في الميراث، وعدم ورث الزَّوجة للعقار. بعد دهر طويل، وقبل (61) عاماً، أصدرت تونس«مجلة الأحوال الشَّخصية»، وقضت إحدى موادها باستئثار البنت بميراث والدها، أي حجب العصبة، لحقها العِراق بإصدار «قانون الأحوال الشَّخصية»(188 لسنة 1959)، لكنه تقدم في إحدى مواده بمساواة البنت بالولد، مما أثار حينها ضجةً كبرى، ولم تهدأ حتى ألغيت بعد انقلاب البعث الأول 1963. جدد الرَّئيس التُّونسي القائد السّبسي، الدَّعوة إلى مساواة المرأة بالرَّجل، متجاوزاً ما شُرع مِن قبل، فأهم فقرة في خطابه كانت مسألتي الإرث، والزَّواج مِن أهل الكتاب، أعلن ذلك في خطاب بمناسبة مرور (61) عاماً على صدور المجلة المذكورة، والذي اُعتبر منذ ذلك التاريخ عيداً للمرأة التونسية، ومِن مكان الاحتفال في قصر قرطاج(13/8/2017)، حيَّا السبسي أحد أبرز دعاة المساواة التونسيين الطِّاهر حداد (ت1935). قائلاً: «الذي عانى شتى ضروب المحن مِن عُزلة وإقصاء وتكفير، ثمناً لكفاحه الفكري»(صفحة رئاسة الجمهورية التّونسية/الفيسبوك). أيدت دار الإفتاء التُّونسية الدَّعوة، وجاء التأييد مستنداً للقرآن: «ولهنَّ مثل الذي عليهنَّ بالمعروف»(البقرة: 228)، ومعلوم أن المعروف، وما لهنَّ وما عليهنَّ، يختلف مِن جيل إلى جيل، فلابن قيم الجوزية(ت751هـ): «الفتوى تتغير بتغير الزَّمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله دين الله»(إعلام الموقعين). بينما اعترض الأزهر، بأن المواريث مقسمة بآيات قطعية، لا تتحمل الاجتهاد ولا تتغير بتغيير الأحوال والأزمان والمكان(اليوم السابع 14/8/2017). على أن الأزهر اعتبر المساواة بين الرَّجل والمرأة في الميراث وزواج المسلمة من غير المسلم الكتابي ليس لصالح المرأة نفسها! كذلك اعترض عليها بعض مشايخ الزيتونة. نرى أن دعوات التَّجديد في الفكر الدِّيني قد كثرت وتعالت، ومِن المؤسسات الدينية نفسها، فيا تُرى ماذا يعني التَّجديد إذا لم يتناول أمر المرأة، وموافقة الأزمنة في شأن المعاملات، لا العبادات؟! نعم، ورد في الإرث قرآن صريح، وفي رواية أنها طُرحت قبل الإسلام. روى ابن حبيب(ت245هـ): «أول مَنْ وَرثَ البنات في الجاهلية، فأعطى البنت سهماً والابن سهمين، ذو المجاسد اليشكري»، لأنه كان أباً لبنات فقط(كتاب المحبر)، لكن ماذا عن تغير «العوائد والأحوال»؟ كذلك قيل مِنْ أسباب نزول ماخص المواريث، هو شكوى زوجة صحابي توفي وترك أربع بنات، فجاء بنو عمومته وأخذوا الميراث فنزلت: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا»(النِّساء:7)، ونزلت أيضاً «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»(المصدر نفسه). أظن أن الاختلاف بين فقهاء المذاهب في شأن الإرث يعطي الحق بالتَّجديد؛ فمثلما تقدم، لا ترث الزَّوجة عند الإمامية من العقار والأرض عيناً(كاشف الغطاء، أصل الشِّيعة وأصولها)، والحجة: «لأن العقار لا يمكن تغييره وقلبه»(الصَّراف، أحكام المرأة بين الاجتهاد والتقليد عن مَن لا يحضره الفقيه). بينما عند بقية المذاهب يرث الإخوة والأعمام، من غير نصف البنت، بالإعالة والعصبة، وترث الزَّوجة العقار عيناً، وعند الإمامية «ترث النَّصف بالفرض، والنِّصف الآخر بالرد إليها(السِّيستاني، منهاج الصَّالحين). لكن عندما أعلنت الحكومة العراقية قانون الأحوال الشَّخصية(1959) في المساواة بالإرث اعتبرته المرجعية الإمامية ضد الدَّين، مع وجود نصوص في توزيع الميراث على إخوان وعمومة الموروث، الذي لا تقره المرجعية نفسها! تبقى الإشارة مهمة للنصوص التي تعامل بها عمر بن الخطاب(اغتيل23هـ)، عندما أوقف العمل بالمؤلفة قلوبهم، والحجة «إنما كان في دهر النَّبي»(ابن سلام، كتاب الأموال)، ولم يوزع أرض العراق غنيمةً، وفيها نص قرآني صريح، وأوقف حد السَّرقة في سنة الرَّمادة(18هــ). برر الأولون تلك الإجراءات بما نبرره اليوم: «زمان الضَّرورة»(الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). أقول: ماذا لو قيظ للشيخ الإخواني الذي أسرع إلى تكفير السِّبسي؛ وقبله كفر رؤساء وملوكاً، مِن مقر إقامته بقطر وتركيا، وعاش ذلك الزَّمن، كيف كان له مواجهة مَن أخذ بـمبرر«زمن الضَّرورة»!