نتيجة الاستفتاء على «تقرير المصير» في كردستان العراق محسومة مسبقاً، فهل يمكن أن يجيب الكردي بشيء آخر غير «نعم» للاستقلال إذا كان الخيار الآخر هو «البقاء في العراق»؟ بالطبع لا. أما أن يقال إنه غير ملزم، أو أنه لا يؤدّي إلى انفصال فوري، أو أن تقرير المصير حقٌّ لكل شعب، فكلُّ ذلك لا ينفي أن الاستفتاء يعني ما يعنيه، أو أن معارضيه من غير الكرد مخطئون في تقديرهم. ذاك أن أوراق كرد العراق علنية ومكشوفة، فلا نيّة لديهم للاستمرار في العراق... ولا في سوريا أو إيران أو تركيا. إنهم يريدون «دولتهم»، ولو لم تكن هناك معالم واضحة لها، لا الآن ولا قبل مئة عام عندما وزّعتهم معاهدة سايكس - بيكو على الدول الأربع. وإذا كانت ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى ظلمتهم فإنهم ينشدون بداية «إنصاف تاريخي» من تغييرٍ في جغرافية المنطقة يرونه متاحاً بانهيار الدولة وتفكّك المجتمع في سوريا والعراق، ولا يفقدون الأمل في اكتماله بالضغط الدولي على تركيا وإيران. هل يُلام مسعود بارزاني على تنظيم استفتاء على «دولته» في «توقيت غير مناسب» عراقياً إذا كان زعيم «الحزب الاتحاد الديمقراطي (وليد الـ«بي كي كي») صالح مسلم يواصل تعزيز «دويلته» في «سياق مناسب» سورياً، بل إنه يسعى إلى توسيعها وصولاً إلى المتوسّط، متجاوزاً حدود أي «دولة كردية» كانت موجودة أو حتى متخيّلة. يريد بارزاني استكمال مشروع بدأ عملياً بالحكم الذاتي، المحمي أميركياً منذ 1991، وأحرز تقدّماً مع إسقاط نظام صدّام حسين، ثم صار واقعياً مع إقرار دستور 2005 مبدأ الفدرلة الذي كرّس وضعاً خاصاً لإقليم كردستان. ومع أن الإقليم شقّ تمايزه باجتهاد كردي ملموس، إلا أن ورشة كتابة الدستور كانت معنيةً بعراق موحّد مع اعتراف لمكوّناته الاجتماعية بحقوقها كافةً، حتى لو أسيء تطبيقه، ولم تكن تبطن استقلالاً/ انفصالاً ممكن الاعتراف به لأي مكوّن. لذلك لم يتضمّن الدستور أي أحكام للتعامل مع مسألة «تقرير المصير»، وبالتالي فهو لا يتيح لحكومة بغداد ولو قبولاً مبدئياً بإجراء الاستفتاء، وعدا أنه لا يجيز للإقليم فرض وضع كياني جديد من دون تعديل دستوري فإنه يعني أيضاً أن الأكراد شاركوا في كتابة الدستور وهم يبيّتون نقضه والخروج عنه. أمران أفسدا مسار الدستور: الأول ظهر لحظة ولادته بوجود بنود معترف بضرورة تعديلها لإنصاف المكوّن السنّي، وهو ما لم يتمّ حتى الآن. والآخر طرأ في الممارسة من خلال حكومة نوري المالكي الذي تبنّى هيمنةً شيعية - إيرانية ودخل في خصومة مفتوحة مع المكوّنَين السنّي والكردي، ولم يبد حرصاً على حماية المكوّنات الأقلية الأخرى. مع الوقت تكاثرت ملفات الخلاف مع الكرد (حصّة الإقليم في الميزانية العامة، مرجعية الإشراف على مداخيل النفط في المناطق الكردية، تمويل جيش البشمركة، حل مسألة مناطق كركوك وسنجار وخانقين المتنازع عليها...). لا شك أن التسويف والإهمال أجّجا الخلاف الذي بلغ الذروة بامتناع حكومة بغداد عن دفع حصة الإقليم في الميزانية، ما راكم مديونيته. ثم أن مراقبة الكرد لتطوّرات الصراع الشيعي - السنّي جعلتهم يحذّرون القوى الداخلية والخارجية من احتمالات انفجار التطرف والإرهاب، كما أنذرتهم بوجود نيات سيطرة وإخضاع يحضّ عليهما الإيرانيون ضد السنّة وقد يستديرون لاستهدافهم لاحقاً. هذه المشاكل والمخاوف حسمت التوجّه نحو الاستقلال/ الانفصال، ومع أن الإقليم ليس جاهزاً ذاتياً لهذا الاستحقاق إلا أنه يراهن على الوقت لتليين الاعتراضات، خصوصاً الإقليمية، لكن عقبة بغداد لا تزال ماثلة، ومن شأنها أن تشكّل ذريعة لحرب أو تدخّل باتت الأطراف الإقليمية تعتبرهما بالغَي الإلحاح، فالإيرانيون والأتراك، الذين تقاربوا أخيراً، قلقون من الدور الذي لعبته المسألة الكردية في تفكّك سوريا والعراق، بمواكبة/ مباركة من الولايات المتحدة أو حتى مشتركة مع روسيا. كانت طهران وأنقرة ضغطتا لتخفيف الاحتضان الروسي لكرد سوريا وربما لانتزاع تعهّد بعدم دعم كيان انفصالي لهم، إلا أن مشكلتهما الكبرى كانت ولا تزال مع واشنطن التي تثمّن مساهمة أكراد سوريا والعراق في الحرب على «داعش»، ولا ترى مانعاً من طمأنتهم ومكافأتهم. إذاً، فالاختراق الكردي خطر قائم، وهو اليوم يقترب من منعطف الاستفتاء في كردستان العراق وقد يتكرّس غداً في «روج آفا» السورية، ليصبح استحقاقاً داهماً قد ترغب تركيا وإيران في استباقه لا انتظاره للتعامل معه.