لا تزال أكثر الصور الأخاذة العالقة في الذاكرة حين يحزم الجد والأب متاعهما، شوقاً إلى المشعر الحرام، نرقب أمام باب بيتنا الجيرانَ وأبناء الخال والجار السابعَ وهم على أهبة الرحيل إلى الحج، أيام من الإثارة مصحوبة بالدموع، الحكايا والأماني وأحلامنا الصغيرة تلازمنا أكثر من نصف شهر ونحن في عالم من الخيال عن هدايا الحجيج (الحقاق) التي ستنهال علينا، هدايا مكة، من منهم سيكون أكثر إسعاداً لنا، من منا أكثر حظوة بعدد من يحجون من أهل بيته، من يحلم بالبرشوت ومن يأمل بالناظور، وآخر بالقريض، وبصور من مكة والجمرات وأزقة البيت الحرام. كانت فيروز عشر ذي الحجة تصدح في التلفزيون «غنيت مكة أهلها الصيدا». فيروز التي أنشدت للكنيسة والإسلام والحب والسلام والجمال والطبيعة. وعيت الحياة وبين بيتنا والمسجد مئة خطوة، 16 عاماً والمسجد حاضر في أحداثنا اليومية، أساسي في برنامجنا اليومي، ويوم الجمعة نكون قد أعددنا ثيابنا النظيفة وتهيأنا بعد عودتنا من سوق الجمعة، في المسجد نصطاد العصافير من أوكارها من المصابيح والأروقة، نتحدى بعضنا من منا يصعد المنارة من دون أن يقع بيد المؤذن (خضير) الذي قلما تفوته همسة أو تخدعه حيلة. كان أربعة أو أكثر من الشيوخ قلما يفارقون المسجد، تراهم عاكفين يقرؤون القرآن يصلُّون وعيونهم تدمع وقلوبهم تخفق، منهم من يقضي نصف يومه في المسجد، ومنهم من لا يحسن إلا قراءة الرسم العثماني، وحين يمرون بنا ونحن نلعب الكرة في طريقهم إلى المسجد أو قافلين إلى بيوتهم، كنا نتسمر هيبة لهم حتى يمروا بسلام. قلة من هم دون الأربعين ممن عاشوا طفولتهم ما بين المدرسة والبيت وأزقة الحارة والمسجد، يرتعون ليالي رمضان مع رفقتهم الصبية بين الأروقة والسواري، ويهامسون أصدقاءهم في الحارة بعد المغيب عن الجن والغيلان، ويقضون وقتاً بعد المغرب يعبثون برمل المسجد وهم يهمسون حتى لا يزجرهم الشيوخ، وقلة من نبتوا وترعرعوا قبل (الصحوة الدينية) على أبوين لا يعرفان من الإيمان إلا أنه سر تماسك الإنسان، لأنه مكمل للفضيلة، فالصلاة إحدى سمات النبالة وأمارة على الانسجام الاجتماعي، ضرب المرأة عار، والقسوة على الزوجة نقص في الرجولة، والتغاضي عن جنون اليافعين أحياناً حكمة، والتجاوز عن عقابيل شرة البلوغ وتفهم نزوات المراهقين فضلة في العقل. وبعد العشاء الجميع يتسمر أمام المسلسلات وأغاني وردة وحفلات أم كلثوم. كنا مجتمعاً طيعاً نجا من أهوال المجاعات والأوبئة التي عاشها الآباء والأجداد قبل عشرينيات القرن الماضي، كنا في سبعينيات القرن الماضي مجتمعاً انتُشل بعناية الله من قاع الفقر والعوز، على أعتاب طفرة كبرى في المداخيل، لكن لم يكن أحد يجرؤ على رمي بقايا الطعام في القمامة، لأنه لم يكن هناك بقايا طعام تهمل، الجميع يأكل ما وضع أمامه من دون نفرة أو شروط ويحمد الله. أما الحجيج فحين يعودون تكون النفوس قد جاشت وتهيأت، فالآباء والأمهات يقضون لياليهم قلقاً على أبنائهم وآبائهم الطاعنين في السن، وهم على وجل مما يسمعونه من قصص الدهس عند الجمرات، والانهيار إرهاقاً وازدحاماً أمام البيت العتيق، الأمهات يذبن شوقاً إلى أبنائهن، الزوجات تخفق قلوبهن لعودة بعولهن، والصغار صبية وغلماناً تداعب مخيلاتهم هدايا الحجيج. ويعود الحجيج ما بين بشرة قد اسمرّت من أثر الشمس، وما بين قلوب قد ذابت شوقاً لمن فارقتهم، ومهج قد وقعت أسيرة في هوى البيت العتيق وروائح مكة، وجمال الأذان، وروعة المكان، وسحر الطواف. الحج هو رحلة النفوس والأشواق إلى مهواها، ومنتهى إرادات المؤمنين.