عبدالله بن حمد الحقيل، الأمين العام السابق لدارة الملك عبدالعزيز، له كتاب بعنوان «رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين»، وفيه يلقي الضوء على بعض المدونات والذكريات والكتابات التي سجلها عدد من الرحالة والمؤرخين والأدباء، من الشرق والغرب، ممن أدوا فريضة الحج وقاموا بزيارة الحرمين المكي والمدني، ومن هؤلاء مثلاً ابن جبير وابن بطوطة ومحمود عباس العقاد والشيخ علي الطنطاوي وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، وحمد الجاسر، ورشيد رضا، ومراد هوفمان، وجفري لانج، ومحمد أسد، وغيرهم الكثير.. ممن وصفوا لنا ذكرياتهم عن تلك الرحلة العظيمة المقدسة وصفاً دقيقاً وفي غاية الإمتاع، وقد تركز الوصف في كثير من هذه الرحلات على ما واجه بعض أصحابها أثناء السفر والوصول إلى الديار المقدسة، فضلاً عن الجوانب الروحانية التي يصل إليها الحاج، فمثلاً نجد في مدونة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، والتي كتبها عام 1935، توجيهاً دقيقاً للحاج كي يتعرف على كيفية التعامل مع هذه الفريضة، فهو مثلاً يوجه كلامه للحجاج قائلاً: إنكم ما حملتم مشاق السفر، ولا رضيتم بفراق الأهل، ولا أنفقتم هذا المال.. إلا ابتغاء ثواب الله تعالى وادخاراً من الحسنات ليوم الحساب، فهل علمتم قبل أن تخرجوا أن الحج حجان: حج مبرور وردت الأحاديث الصحاح بأنه ليس له ثواب إلا الجنة، وأن صاحبه يرجع منه كيوم ولدته أمه، وحج ما فيه إلا إنفاق المال وإرهاق الجسد وفراق العيال؟ وماذا تعملون ليرفع الله حجكم إليه وكي لا يرده عليكم، فيضرب به وجوهكم؟ ثم يتابع: أحضر يا أخي الحاج، أحضر.. فكر قبل أن تخطو أول خطوة في طريق الحج، وحاسب نفسك، وانظر في حياتك، في بيتك وصِلاتك بأهلك وروابطك بأصحابك، وسلوكك في وظيفتك وتجارتك، وفي مصادر ثروتك، وطرق إنفاقك.. فكر فيها كلها وقسها بمقياس الشرع، فما وجدته منها محرماً فتب منه واستسمح أصحابه قبل أن تمضي إلى الحج. ثم يكمل: أخي الحاج اغسل قلبك من أوضار الذنوب وتخلص بالحج من تبعات الحرام واعلم أن ثياب الإحرام لا يمتاز فيها غني عن فقير، ولا أمير من أجير، وانزعوا مشاغل الدنيا ومشاكلها من قلوبكم واغسلوا بالماء أجسادكم واغسلوا بتجديد التوبة نفوسكم. أما «بنت الشاطئ» فقد كانت مذكراتها عن أرض المعجزات التي قامت بزيارتها سنة 1392 للهجرة، وقد نقلت فيها مشاهد روحانية عذبة عندما قالت: الناس عندما يسعون إلى البيت العتيق محرمين متطهرين خاشعين قانتين وقد تجردوا من كل زينة وجاه وزهرة، وقد طرحوا عنهم ما يتفاخرون به من أزياء وألقاب ورتب ومناصب، وتخففوا من الأثقال المادية التي تئد روح الإنسان وتخنق فيه هيامه الفطري بالحق والخير والجمال.. وجاؤوا إلى بيت الله الحرام في زي الإحرام شبه عراة وشبه حفاة، وتماحت بينهم فروق الألوان والأجناس والعناصر والطبقات والدرجات واستوى الملوك والرعايا والأمراء والدهماء والرؤساء والأتباع، فليسوا جميعاً سوى عباد الله تعالى وما يتفاضلون إلا بالتقوى وتتجلى فيهم وبهم الآية المحكمة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..» (سورة الحجرات، الآية 13)، ثم تكمل: يمحق هذا الدين في ختام رسالاته كل ما ينهك إنسان العصر من مآسي التفرقة العنصرية، وجرائم الاضطهاد المذهبي، ولعنة الإكراه في الدين.. وبصوت واحد في حرم البيت العتيق يعلو هتاف المسلمين: لبيك اللهم، لبيك لا شريك لك، لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك.