ينبع هذا المسعى من تصور قديم، تحول بمقتضاه الإسلام إلى أيديولوجيا، حيث زعم بعض الحكام أن مهمتم ليست سياسة الدنيا فحسب، بل حراسة الدين أيضاً. وعلى رغم أن الجماعات والتنظيمات الدينية الساعية إلى حيازة السلطة السياسية لم تجهر صراحة بأنها تعمل على إقامة «دولة الدين» لكن جوهر مشروعها، وبعض أدبياتها، والكامن وراء سطور وكلام قياداتها يشي بأن هذا مقصدها من دون مواربة، وهو ما يظهر بجلاء في تعبيرها الأثير «دولة إسلامية»، المبثوث في خطابها وأدبياتها بشكل كبير. فالحديث عن «استعادة الخلافة» وما يسمى «دولة المدينة» و«تطبيق الشريعة» و«نصرة الإسلام» و«الجهاد» و«التماهي مع الأممية الإسلامية» و«أسلمة المعرفة» و«العصبة المؤمنة»، كل هذا لا يخلو في أصله من استنبات «دولة الدين»، التي عبر عنها التصور المؤسس لجماعة «الإخوان» حين انطلق من أن الإسلام «دين ودولة، ومصحف وسيف». وهناك ملاحظات أساسية حول هذه المسألة يمكن ذكرها على النحو التالي: 1- تتعامل الجماعات والتنظيمات الدينية المسيّسة مع الدولة باعتبارها فريضة دينية يتساوى إنكار ضرورتها مع «الكفر» الذي يحل به القتل، منطلقة من مقولات وتصورات قديمة تعتبر «الخلافة» ليست مجرد اجتهاد من المسلمين الأوائل كان يلائم زمانهم بل هي أصل من أصول الإسلام! ولذا فإن إقامتها واجبة، والكفاح من أجلها ضرورة، حتى لو انزلق هذا الكفاح إلى استعمال العنف المفرط ضد بقية المسلمين، ممن ارتضوا بالدولة الوطنية الحديثة، ولاسيما ضد المفكرين والمثقفين والساسة التابعين للأحزاب المدنية، الذين يتعاملون مع «الخلافة» بوصفها شكلاً إمبراطورياً للحكم مثلما كان سائداً في القرون الوسطى، ولم تعد إقامته ممكنة، فضلاً عن أنها غير مرغوب فيها، لأنها عودة إلى الوراء، والتاريخ لا يسير بظهره. 2- لا تعد مسألة «تديين الدولة» و«دولنة الدين» سهلة، بأي حال من الأحوال، والفصل فيها ليس ببساطة فض نزاع بين دولتين على الحدود، أو بين شركتين على النقود، فمن الصعب إقناع قطاع عريض من الناس بحدود مائزة بين «الدين» و«الدولة»، ولاسيما بعد الأفكار التي تم بثها في الرؤوس، والمعاني التي وقرت في النفوس، عن تجربة الرعيل الأول من المسلمين أو «الفترة الكلاسيكية للإسلام»، والذين أعيدت صياغة تجربتهم لخدمة المشروع الإمبراطوري الأموي والعباسي والعثماني، بما دمج الدين في الدولة، والدولة في الدين، وجعل المسلمين المعاصرين يتحدثون عن كون تجربة الإسلام، وهم يقصدون في هذا تاريخ المسلمين، غير تجربة المسيحية الغربية، وفي هذا من دون شك تعمية على الدين لحساب الدنيا، وهروب من مواجهة الحقيقة التي تقول بوضوح إن المسلمين استبدلوا تجربة الرجال الأقدمين منهم بالقرآن الكريم وما ينص عليه ويطلبه ويوجبه ويفرضه. 3- بذلت الجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسي، ابتداء من جماعة «الإخوان» جهداً مضنياً، وجاراها بعض الباحثين والمفكرين والكٌتاب، في سبيل تحديد أطر وملامح أساسية لما يسمى «النظام السياسي في الإسلام»، وتم تأليف آلاف الكتب في هذا الاتجاه، سواء بالحديث فيه مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، وباتت هذه الكتب تسمم المجال الفكري العام للمسلمين المعاصرين. وعلى مستوى الجهد نفسه تسخر هذه الجماعات جزءاً لا يستهان به من طاقتها في مقاومة الآراء التي تدحض وجهة نظرها تلك، ويتم تشويه أصحابها بلا روية ولا ورع. 4- استفادت الجماعات والتنظيمات الساعية إلى إقامة «دولة الدين» في تسويغ خطابها الذي يرمي لتحقيق هذا الهدف من إخفاق النخب اليسارية والليبرالية بشتى صنوفها، والتي حكمت البلدان العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، في إقامة «دولة وطنية» راسخة المعالم، تتمع بشرعية قوية، ورضا جماهيري واسع النطاق. وبات أتباع هذه الجماعات يردون على كل من ينتقد خطابهم قائلين: «لقد حكم الليبراليون واليساريون والقوميون وأخفقوا، فامنحونا فرصة، لأن مشروعنا هو الأحق بالاتباع والتطبيق»، ولكن حين وصل «الإخوان» إلى الحكم في مصر، اكتشف الناس أنهم لا يملكون سوى أمنيات حول الدولة التي يريدون بناءها، وأن مفهوم الدولة الوطنية والمدنية لم يرسخ في أقوالهم وأفعالهم بعد. 5- شكلت الجماعات الساعية إلى إقامة «دولة الدين» معضلة حقيقية أمام التطور الديمقراطي في مصر وغيرها، فابتداء هي لا تؤمن في دخيلة نفسها بالديمقراطية، وإن أظهرت عكس ذلك في مجاراة لمن حولها ومداراة عن حقيقة أمرها، أو في ظل تحايلها على القوى السياسية والفكرية الأخرى في سبيل دمجها في العملية السياسية والدفاع عنها، ولاسيما لدى أصحاب الخطاب الحقوقي.